قصة يوسف فيها عبر وفوائد جمة لمن تأملها .
وفيها متعة وتشويق للنفس البشرية
فهي تحكي أطوار حياة نبي من أنبياء الله ، منذ الصغر إلى أن تقلد المنصب الكبير في عصره .
وفي هذه الورقات نقوم بجولة عجلى على مقطعين من مقاطع السورة نستلهم منها العبر والدروس النافعة لنا .
يقول سبحانه : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رأيت أحد
عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا
لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإنسان عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا
أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَاقَ إِنَّ
رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} [يوسف] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ))(32).
دخل عمر ، رضي الله عنه ،مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد قاصا
يقص على الناس من أخبار الجاهلية والأمم السابقة فقال عمر : من هذا ؟
قالوا : قاص يقص علينا .
فعلاه عمر بالدرة وقال : أتقص يا عدو نفسك والله يقول : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } (يوسف: من الآية3).
ومن أحسن القصص : قصة يوسف ، عليه السلام .
وبطلها هو : يوسف صلى الله عليه وسلم الذي مر بأربع مشاهد:
1- مشهد الفراق لأبيه عندما فارقه أربعين سنة لم يشاهده فيها .
2- ومشهد الفتنة مع امرأة العزيز التي تعرضت له ، وهي من أجمل خلق الله .
3- ومشهد السجن عندما سجن في ذات الله ،ومحص ليخرج برضوان الله .
4- ومشهد الوزراة والملك عندما اعتلى على مناصب القوة ومراكزها في عصره .
قال تعالى في أول السورة ( الر ) فمن هذه الحروف نتكلم .
ومن هذه الحروف نقول كلماتنا.
فيا أيها الفصحاء .. يا قريش اللسناء .. يا قريش البليغة . تعالوا فصوغوا من هذه الحروف قرانا ، كما صغنا قرآننا .
فالمادة موجودة والخام معروف.
ولكن هل تستطيعون ؟
لا !!! لن تستطيعوا ، { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } (البقرة: من الآية24) .
ثم قال تعالى : { تلك آيات الكتاب المبين } كتاب بين واضح ، { إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (يوسف:2)
فيا من نام وما استيقظ ... استيقظ بهذا القران .
ويا من غفل ولم يصح ... اصح بهذا القرن .
ويا من فقد عقله ... أعقل بهذا القران .
ثم يقول ، تبارك وتعالى ، مقدما للقصة المدهشة التي ما سمع الناس
بمثلها{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف: من الآية3)،
فأروع القصص وأصدق القصص هي قصص القران.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}
(يوسف:3). كنت أميا لا تقرا ولا تكتب .
كنت في صحراء مع أمة أمية جاهلية ليس عندها أي قصص ، وليس عندها علم ، فاسمع الآن القصص .
ثم ينتقل بنا القران إلى يوسف صلى الله عليه وسلم ، والى أبيه يعقوب ، إلى
الأنبياء المطهرين والأسرة العريقة ذات الكرم والجود والتقوى .
وما كان من خير آتاه فإنما *** توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطى إلا وشيجة *** وتغرس إلا في منابتها النخل
يصحو يوسف ، عليه السلام ،وهو غلام فيما يقارب العاشرة فيجلس أمام أبيه ،
ومن أجب الأعاجيب عند الطفلان يرى في النوم رؤيا ليفرح بها ويقصها على
أبيه وأمه ، وبعضهم يزيد فيها وينقص .
وأما يوسف صلى الله عليه وسلم فما زخرف وما زاد ، بل جلس أمام أبيه ، وقال
: يا أبتاه !! إني رأيت البارحة أحد عشر كوكبا في السماء والشمس والقمر .
ولو سكت لما كان في القصة عجب ؛ لأن الكل يرى النجوم والكواكب والشمس
والقمر ، ولكن سر الرؤيا كان في الخاتمة {رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف:
من الآية4).
ففزع يعقوب بهذه الرؤيا ، وفطن لأنه من الأنبياء ، وعلم أن ابنه هذا سوف يكون له شأن أيما شأن ، وسوف يكون وارثه في النبوة .
فخاف أن يخبر إخوانه بهذه الرؤيا ، فيأتي الشيطان فيفسد ما بينهم وبينه .
فقال : ( يا بني ) للتحبيب {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}
(يوسف: من الآية5) حذاري حذاري أن يسمعوا هذه القصة ، فلا تخبرهم أبدا انك
رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون لك .
ولكن يوسف ، عليه السلام ، نسي لصغره الوصية ، فأخبر بها إخوانه عندما جلس معهم .
ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم أن أحدنا إذا رأى رؤيا أن لا يقصها إلا على من يحب (24).
فثار الحقد والحسد في قلوب إخوانه ، وبدءوا يدبرون له المكايد .
فعلم يعقوب بأنهم علموا الرؤيا فتضايق وخاف منهم على أخيهم .
ثم قال تعالى : {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيات
لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى
أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(8)} فهم إضافة إلى تلك الرؤيا التي أثارتهم ، قد ازدادوا بغضا ليوسف
عندما رأوا أباهم يقربه ويحبه ويبش له دونهم .
وفي هذا : تنبيه للآباء بأن لا يفضلوا أحد أبنائهم على الآخرين ؛ لأنه في
النهاية إن لم يصرفه الله عن السوء سيكون مثل إخوة يوسف ، ولا شك .
ولا تغررك الأفعال الظاهرة ، فإن بعض القلوب والنفوس تكتم شعورها لتفرغه في الوقت المناسب .
المهم : أنهم دبروا لأخيهم مكيدة ما سمع التاريخ بمثلها .
فهو طفل صغير عاقل تقي ورع من أبناء النبوة ،لكنهم قرروا قتله أو إخفاءه .
{يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً}
لماذا كل هذا ؟
{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي : سوف تختلون بأبيكم وينفرد بحبكم ،
{وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} فتتوبون من الخطأ ،
وتستغفرون الله من الجريمة ،ويتوب الله عليكم .
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : نووا التوبة قبل الذنب .
{قَائِلٌ مِنْهُمْ} وهو أكبرهم {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي
غَيَابَتِ الْجُبِّ} فالقتل جريمة نكراء عند هذا الأخ الذي تحركت غيرته
على أخيه نوعا ما ، فجعلته يختار عدم القتل ، ولكن {وَأَلْقُوهُ فِي
غَيَابَتِ الْجُبِّ } ي : في بئر عميقة ، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي :
مصممين على هذه الفعلة .
فلما اجتمعوا، اجمعوا أمرهم على هذه المكيدة.
ولكن ، من يخرج يوسف من بيد يدي أبيهم ، عليه السلام :
فأتوا يوما وقالوا : {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى
يُوسُفَ} أنحن خونة ؟ أتشك فينا ؟ هل ضربناه ؟ هل حسدناه ؟ {مَا لَكَ لا
تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} فنحن نحبه والله ،
وننصح له ، ولا نريد إلا الخير له .
ثم أكدوا طلبهم وقرنوه ببعض الأعذار المغرية والتطمينات فقالوا : {أرسلهُ
مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي : يرعى
معنا الغنم ، بل ويلعب أيضا ؛ لأن الصغار دائما يحبون اللعب ، ولا تخف
فنحن سنحفظه من اللصوص ومن الذئاب لأننا عصبة كثيرون.
فقال ، عليه السلام : {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أجد
وحشة والله على هذا الابن أن يذهب من بيتي ، (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ
الذِّئْبُ) لما كانوا قالوا في الأخير : {أَكَلَهُ الذِّئْبُ} لأن هذا ليس
في أذهانهم منذ البداية ، فهو ، عليه السلام ، قد سهل لهم العذر والمكيدة.
فخرجوا به، فلما أصبحوا في الصحراء ، والغنم ترتع وتأكل وهم يلعبون ،
والجو ساكن وهادئ ، والطيور تغرد وتزغرد ، والنسيم يعل وينهل على الأعشاب
، ولكن القلوب تغلي بالحقد على الأخ الحبيب القريب والصغير .
فأخذوه ، وقيدوه بحبل ، وأنزلوه في البئر .
فأخذ يستغيث ويظن أنهم يمزحون ، وقد خيروه بين القتل وبين أن يلقى في البئر .
كفى بك داءان ترى الموت شافيا *** وحسب المنايا أن يكن امانيا
تمنيتها لما تمنيت أن تــــرى *** صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
فأنزلوه ، وهو يتشبث بالحبل ، ويبكي .
قال ابن عباس ، وهو يبكي ، حينما قرأ سورة يوسف : هدأت الحيتان في البحر من التسبيح ، ولم يهدأ يوسف ، عليه السلام ، من التسبيح.
فلما نزل في قعر البئر ، قطعوا الحبل ، فبقي في حفظ الله ، وفي رعاية الله .
وإذا العناية لاحظتك عيونهــا *** نم فالحوادث كلهن أمان
قطعوا الحبل ، وتركوه في البئر ، وهو يلهج بذكر الله في الصحراء ، وحيدا ليس معه إلا الله .
الذئاب حوله ، والجو مكفهر ، لا خبز ولا ماء ولا طعام ، ولا أهل ولا جيران
ولا أحبة ولا مؤنس يؤنس ، وإنما الذئب يعوي في صحراء مدوية.
عوى الذئب استأنست بالذئب إذ عوى *** وصوت إنسان فكدت أطير
وإخوته بفعلهم هذا قد أخطأوا في ثلاث مواطن:
الأول : أنهم نفذوا جريمتهم في أول يوم يذهب فيه معهم ،وهذا دليل على شدة تعجلهم بالانتقام منه ، وإزالته من أمام أعينهم .
ولو أعادوه ليطمئن أبوهم لما شك فيهم ، ولكنها حكمة الله التي فضحتهم .
الثاني : أنهم خلعوا قميصه ،ولم يمزقوه ، وقالوا : أكله الذئب .
وهذه غفلة منهم ؛ لأن الذئب إذا أراد الأكل لا يخلع القميص بل يمزقه !!
الثالث : أنهم عندما عادوا لأبيهم وأخبروه قالوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}(يوسف: من الآية17 ) أي : بمصدق.
وهذا كقولهم في المثل : ( كاد المريب أن يقول خذوني ).
فأوحى الله إلى يوسف {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ} أي: ستمر الأيام وتخبرهم بهذا الصنيع منهم بعد سنين طويلة .
فعاد الإخوة إلى أبيهم في العشاء يبكون .
ولماذا العشاء ؟
لماذا لم يعودوا في العصر ؟
قيل : لئلا يرى أبوهم الدم بوضوح ،فيكتشف انه ليس بدم آدمي.
وقيل : ليتوهم أنهم تأخروا في مطاردة الذئب !
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فقالوا : (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) أي : نتسابق ونجري (وَتَرَكْنَا
يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا) لكي لا يصل أو يبعد عن أعيننا (فَأَكَلَهُ
الذِّئْبُ) أي : جاء الذئب وأكله ونحن لاهون في مسابقتنا ولعبنا .
ثم قالوا : حتما لن تصدقنا {أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا
صَادِقِينَ} لكن انظر إلى الدليل : أخرجوا له القميص وجعلوه قريبا منه
ليلمح آثار الدم عليه . لكنه ، عليه السلام ، علم المكيدة من اللمحات
والنظرات والريبة ، و القميص الذي لم يمسسه مزق واحد ، فقال : {بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أنفسكُمْ أَمْراً} لقد كدتم مكيدة {جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
قال ابن تيمية ، رحمه الله : الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه .
والصبر الجميل : هو الذي لا تظهر فيه الفقر والمسكنة إلا لله .
والصبر الجميل : أن تتجمل أمام خلق الله .
قيل لأحد العباد : ما هو الصبر الجميل ؟
قال : أن يقطع جسمك قطعة قطعة ، وأنت تبتسم.
وقال آخر : الصبر الجميل أن تبتلى ، وقلبك يقول : الحمد لله .
ثم تولى يبكي حتى ابيضت عيناه.
وبالفعل صبر يوسف ، عليه السلام ، حتى أرسل الله ، عز وجل ، برحمة منه
قافلة تمر من ذلك المكان ،وبالقرب من البئر ، فذهب و أردهم وأدلى دلوه في
البئر يستقي الماء ، فتعلق يوسف ، عليه السلام ، بالدلو ، فلما سحب الرجل
الدلو رأى غلاما جميلا قد أوتي شطر الحسن ، فقال لأصحابه : {يَا بُشْرَى}
فانتبهوا ، فقال : {هَذَا غُلامٌ} أي : خادم وعبد لي ، سوف أبيعه .
يتبع
وفيها متعة وتشويق للنفس البشرية
فهي تحكي أطوار حياة نبي من أنبياء الله ، منذ الصغر إلى أن تقلد المنصب الكبير في عصره .
وفي هذه الورقات نقوم بجولة عجلى على مقطعين من مقاطع السورة نستلهم منها العبر والدروس النافعة لنا .
يقول سبحانه : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رأيت أحد
عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا
لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإنسان عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا
أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَاقَ إِنَّ
رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} [يوسف] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ))(32).
دخل عمر ، رضي الله عنه ،مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد قاصا
يقص على الناس من أخبار الجاهلية والأمم السابقة فقال عمر : من هذا ؟
قالوا : قاص يقص علينا .
فعلاه عمر بالدرة وقال : أتقص يا عدو نفسك والله يقول : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } (يوسف: من الآية3).
ومن أحسن القصص : قصة يوسف ، عليه السلام .
وبطلها هو : يوسف صلى الله عليه وسلم الذي مر بأربع مشاهد:
1- مشهد الفراق لأبيه عندما فارقه أربعين سنة لم يشاهده فيها .
2- ومشهد الفتنة مع امرأة العزيز التي تعرضت له ، وهي من أجمل خلق الله .
3- ومشهد السجن عندما سجن في ذات الله ،ومحص ليخرج برضوان الله .
4- ومشهد الوزراة والملك عندما اعتلى على مناصب القوة ومراكزها في عصره .
قال تعالى في أول السورة ( الر ) فمن هذه الحروف نتكلم .
ومن هذه الحروف نقول كلماتنا.
فيا أيها الفصحاء .. يا قريش اللسناء .. يا قريش البليغة . تعالوا فصوغوا من هذه الحروف قرانا ، كما صغنا قرآننا .
فالمادة موجودة والخام معروف.
ولكن هل تستطيعون ؟
لا !!! لن تستطيعوا ، { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } (البقرة: من الآية24) .
ثم قال تعالى : { تلك آيات الكتاب المبين } كتاب بين واضح ، { إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (يوسف:2)
فيا من نام وما استيقظ ... استيقظ بهذا القران .
ويا من غفل ولم يصح ... اصح بهذا القرن .
ويا من فقد عقله ... أعقل بهذا القران .
ثم يقول ، تبارك وتعالى ، مقدما للقصة المدهشة التي ما سمع الناس
بمثلها{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف: من الآية3)،
فأروع القصص وأصدق القصص هي قصص القران.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}
(يوسف:3). كنت أميا لا تقرا ولا تكتب .
كنت في صحراء مع أمة أمية جاهلية ليس عندها أي قصص ، وليس عندها علم ، فاسمع الآن القصص .
ثم ينتقل بنا القران إلى يوسف صلى الله عليه وسلم ، والى أبيه يعقوب ، إلى
الأنبياء المطهرين والأسرة العريقة ذات الكرم والجود والتقوى .
وما كان من خير آتاه فإنما *** توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطى إلا وشيجة *** وتغرس إلا في منابتها النخل
يصحو يوسف ، عليه السلام ،وهو غلام فيما يقارب العاشرة فيجلس أمام أبيه ،
ومن أجب الأعاجيب عند الطفلان يرى في النوم رؤيا ليفرح بها ويقصها على
أبيه وأمه ، وبعضهم يزيد فيها وينقص .
وأما يوسف صلى الله عليه وسلم فما زخرف وما زاد ، بل جلس أمام أبيه ، وقال
: يا أبتاه !! إني رأيت البارحة أحد عشر كوكبا في السماء والشمس والقمر .
ولو سكت لما كان في القصة عجب ؛ لأن الكل يرى النجوم والكواكب والشمس
والقمر ، ولكن سر الرؤيا كان في الخاتمة {رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف:
من الآية4).
ففزع يعقوب بهذه الرؤيا ، وفطن لأنه من الأنبياء ، وعلم أن ابنه هذا سوف يكون له شأن أيما شأن ، وسوف يكون وارثه في النبوة .
فخاف أن يخبر إخوانه بهذه الرؤيا ، فيأتي الشيطان فيفسد ما بينهم وبينه .
فقال : ( يا بني ) للتحبيب {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}
(يوسف: من الآية5) حذاري حذاري أن يسمعوا هذه القصة ، فلا تخبرهم أبدا انك
رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون لك .
ولكن يوسف ، عليه السلام ، نسي لصغره الوصية ، فأخبر بها إخوانه عندما جلس معهم .
ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم أن أحدنا إذا رأى رؤيا أن لا يقصها إلا على من يحب (24).
فثار الحقد والحسد في قلوب إخوانه ، وبدءوا يدبرون له المكايد .
فعلم يعقوب بأنهم علموا الرؤيا فتضايق وخاف منهم على أخيهم .
ثم قال تعالى : {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيات
لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى
أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(8)} فهم إضافة إلى تلك الرؤيا التي أثارتهم ، قد ازدادوا بغضا ليوسف
عندما رأوا أباهم يقربه ويحبه ويبش له دونهم .
وفي هذا : تنبيه للآباء بأن لا يفضلوا أحد أبنائهم على الآخرين ؛ لأنه في
النهاية إن لم يصرفه الله عن السوء سيكون مثل إخوة يوسف ، ولا شك .
ولا تغررك الأفعال الظاهرة ، فإن بعض القلوب والنفوس تكتم شعورها لتفرغه في الوقت المناسب .
المهم : أنهم دبروا لأخيهم مكيدة ما سمع التاريخ بمثلها .
فهو طفل صغير عاقل تقي ورع من أبناء النبوة ،لكنهم قرروا قتله أو إخفاءه .
{يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً}
لماذا كل هذا ؟
{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي : سوف تختلون بأبيكم وينفرد بحبكم ،
{وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} فتتوبون من الخطأ ،
وتستغفرون الله من الجريمة ،ويتوب الله عليكم .
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : نووا التوبة قبل الذنب .
{قَائِلٌ مِنْهُمْ} وهو أكبرهم {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي
غَيَابَتِ الْجُبِّ} فالقتل جريمة نكراء عند هذا الأخ الذي تحركت غيرته
على أخيه نوعا ما ، فجعلته يختار عدم القتل ، ولكن {وَأَلْقُوهُ فِي
غَيَابَتِ الْجُبِّ } ي : في بئر عميقة ، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي :
مصممين على هذه الفعلة .
فلما اجتمعوا، اجمعوا أمرهم على هذه المكيدة.
ولكن ، من يخرج يوسف من بيد يدي أبيهم ، عليه السلام :
فأتوا يوما وقالوا : {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى
يُوسُفَ} أنحن خونة ؟ أتشك فينا ؟ هل ضربناه ؟ هل حسدناه ؟ {مَا لَكَ لا
تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} فنحن نحبه والله ،
وننصح له ، ولا نريد إلا الخير له .
ثم أكدوا طلبهم وقرنوه ببعض الأعذار المغرية والتطمينات فقالوا : {أرسلهُ
مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي : يرعى
معنا الغنم ، بل ويلعب أيضا ؛ لأن الصغار دائما يحبون اللعب ، ولا تخف
فنحن سنحفظه من اللصوص ومن الذئاب لأننا عصبة كثيرون.
فقال ، عليه السلام : {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أجد
وحشة والله على هذا الابن أن يذهب من بيتي ، (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ
الذِّئْبُ) لما كانوا قالوا في الأخير : {أَكَلَهُ الذِّئْبُ} لأن هذا ليس
في أذهانهم منذ البداية ، فهو ، عليه السلام ، قد سهل لهم العذر والمكيدة.
فخرجوا به، فلما أصبحوا في الصحراء ، والغنم ترتع وتأكل وهم يلعبون ،
والجو ساكن وهادئ ، والطيور تغرد وتزغرد ، والنسيم يعل وينهل على الأعشاب
، ولكن القلوب تغلي بالحقد على الأخ الحبيب القريب والصغير .
فأخذوه ، وقيدوه بحبل ، وأنزلوه في البئر .
فأخذ يستغيث ويظن أنهم يمزحون ، وقد خيروه بين القتل وبين أن يلقى في البئر .
كفى بك داءان ترى الموت شافيا *** وحسب المنايا أن يكن امانيا
تمنيتها لما تمنيت أن تــــرى *** صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
فأنزلوه ، وهو يتشبث بالحبل ، ويبكي .
قال ابن عباس ، وهو يبكي ، حينما قرأ سورة يوسف : هدأت الحيتان في البحر من التسبيح ، ولم يهدأ يوسف ، عليه السلام ، من التسبيح.
فلما نزل في قعر البئر ، قطعوا الحبل ، فبقي في حفظ الله ، وفي رعاية الله .
وإذا العناية لاحظتك عيونهــا *** نم فالحوادث كلهن أمان
قطعوا الحبل ، وتركوه في البئر ، وهو يلهج بذكر الله في الصحراء ، وحيدا ليس معه إلا الله .
الذئاب حوله ، والجو مكفهر ، لا خبز ولا ماء ولا طعام ، ولا أهل ولا جيران
ولا أحبة ولا مؤنس يؤنس ، وإنما الذئب يعوي في صحراء مدوية.
عوى الذئب استأنست بالذئب إذ عوى *** وصوت إنسان فكدت أطير
وإخوته بفعلهم هذا قد أخطأوا في ثلاث مواطن:
الأول : أنهم نفذوا جريمتهم في أول يوم يذهب فيه معهم ،وهذا دليل على شدة تعجلهم بالانتقام منه ، وإزالته من أمام أعينهم .
ولو أعادوه ليطمئن أبوهم لما شك فيهم ، ولكنها حكمة الله التي فضحتهم .
الثاني : أنهم خلعوا قميصه ،ولم يمزقوه ، وقالوا : أكله الذئب .
وهذه غفلة منهم ؛ لأن الذئب إذا أراد الأكل لا يخلع القميص بل يمزقه !!
الثالث : أنهم عندما عادوا لأبيهم وأخبروه قالوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}(يوسف: من الآية17 ) أي : بمصدق.
وهذا كقولهم في المثل : ( كاد المريب أن يقول خذوني ).
فأوحى الله إلى يوسف {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ} أي: ستمر الأيام وتخبرهم بهذا الصنيع منهم بعد سنين طويلة .
فعاد الإخوة إلى أبيهم في العشاء يبكون .
ولماذا العشاء ؟
لماذا لم يعودوا في العصر ؟
قيل : لئلا يرى أبوهم الدم بوضوح ،فيكتشف انه ليس بدم آدمي.
وقيل : ليتوهم أنهم تأخروا في مطاردة الذئب !
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فقالوا : (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) أي : نتسابق ونجري (وَتَرَكْنَا
يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا) لكي لا يصل أو يبعد عن أعيننا (فَأَكَلَهُ
الذِّئْبُ) أي : جاء الذئب وأكله ونحن لاهون في مسابقتنا ولعبنا .
ثم قالوا : حتما لن تصدقنا {أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا
صَادِقِينَ} لكن انظر إلى الدليل : أخرجوا له القميص وجعلوه قريبا منه
ليلمح آثار الدم عليه . لكنه ، عليه السلام ، علم المكيدة من اللمحات
والنظرات والريبة ، و القميص الذي لم يمسسه مزق واحد ، فقال : {بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أنفسكُمْ أَمْراً} لقد كدتم مكيدة {جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
قال ابن تيمية ، رحمه الله : الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه .
والصبر الجميل : هو الذي لا تظهر فيه الفقر والمسكنة إلا لله .
والصبر الجميل : أن تتجمل أمام خلق الله .
قيل لأحد العباد : ما هو الصبر الجميل ؟
قال : أن يقطع جسمك قطعة قطعة ، وأنت تبتسم.
وقال آخر : الصبر الجميل أن تبتلى ، وقلبك يقول : الحمد لله .
ثم تولى يبكي حتى ابيضت عيناه.
وبالفعل صبر يوسف ، عليه السلام ، حتى أرسل الله ، عز وجل ، برحمة منه
قافلة تمر من ذلك المكان ،وبالقرب من البئر ، فذهب و أردهم وأدلى دلوه في
البئر يستقي الماء ، فتعلق يوسف ، عليه السلام ، بالدلو ، فلما سحب الرجل
الدلو رأى غلاما جميلا قد أوتي شطر الحسن ، فقال لأصحابه : {يَا بُشْرَى}
فانتبهوا ، فقال : {هَذَا غُلامٌ} أي : خادم وعبد لي ، سوف أبيعه .
يتبع