السحر بين الحقيقة والوهم
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى ، ونشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له نعبده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، ونشهد
أن الهادي محمدا عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله وكفى بالله شهيدا.
عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ؛ أما بعد :
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر
الأمور محدثاتها وكلَّ بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وإن من كلامه
تعالى قوله لموسى عليه السلام في مواجهة فرعون وسحرته : ( قلنا لا تخف إنك
أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيدُ ساحر ولا
يفلح الساحر حيث أتى ) 1 ويحتاج المسلمون إلى هذه العزيمة والصدق في وجه
جيوش من الخرافات تجتاح عقولهم وتبلبل عزائمهم ، والمسؤول عن الموضوع
عاملان ؛ أولهما: الانحطاط الإيماني ومن ورائه كل أنواع الضعف العلمي
والفكري والثقافي والاجتماعي ، وثانيهما: التركيز الشديد خلال مئات السنين
على موضوع السحر وكأن العقيدة لا تقوم إلا عليه مع أنه من أصغر فرعياتها ،
ولا أدري ماذا ينفع أمة تستباح أراضيها وتنتهك أعراضها وتنتهب أموالها
وتنكس راياتها في كل الميادين ، أن يقوم فيها نفر يركزون على موضوع السحر
والسحرة بطريقة مغلوطة حتى غلب التفكير الخرافي على عقول الدهماء وضاع
بينهم العلماء ، لذا نتصدى لطرح الموضوع باختصار فنقول:
السحر في العرف الشرعي مختص بكل أمر يخفى سببه ويُتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع ، ومتى أُطلق أفاد ذم فاعله.
وهل للسحر حقيقة أم هو مجرد تخيل وخداع؟ قال القرطبي: بأن السحر عند
المعتزلة خدع لا أصل له ، وعند الشافعي وسوسة وأمراض ، وعندنا ؛ يقول
القرطبي : "أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء".
وفي كل الحالات فإن الله تعالى لم يتعبدنا ولا يسألنا يوم الدين عن هذا
الأمر ، والذي نسأل عنه هو التوحيد والإخلاص ، وعقيدتنا أنه لا ينفع ولا
يضر شيء إلا بإذن الله ، وقد وردنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله
: (قل هو الله أحد ؛ قل أعوذ برب الفلق ؛ قل أعوذ برب الناس ؛ لم يتعوذ
الناس بمثلهن) وفي رواية النسائي أنه قال لأحد أصحابه (قل: قل هو الله أحد
والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا يكفك كل شيء)2
ولكن الإسرائيليات دخلت في كثير من العقول الشاردة وحتى وجدت لها مكانا
لتزاحم العقيدة النقية بأباطيل وترهات ، وبعض من يدرسون الناس يستدلون لهم
عن السحر بقصة الملكين في سورة البقرة وأغلب ما ذكر فيها إسرائيليات قبيحة
، ومن ذلك قولهم أن ملكين من خيار الملائكة نزلا من السماء ثم فتنا بامرأة
اسمها الزهرة وراوداها عن نفسها ووقعا بها ودخلا في دينها وشربا الخمر
وقتلا نفسا بغير حق ثم استدرجتهما حتى علمت منهما الاسم الذي يُصعد فيه
إلى السماء فعرجت فمسخت كوكبا وهو الذي يسمى الزهرة ، وهذا سخف قبيح وباطل
صريح يتنزه عنه أهل الحق في تفاسيرهم والعلماء في دروسهم ؛ إلا أنَّ قرونا
من الخرافات لا بد أن تدع بعض البصمات الخبيثة فترى أن هناك من لا يزال
يخبط هنا وهناك ويمهد الناس لقبول ما لم يأت به شرع ولا يقره عقل.
ذكر الإمام القاسمي في محاسن التأويل: (أن للعلماء في هذه الآية وجوها
كثيرة فمنهم من نقل الغث والسمين ، وبعضهم وقف مع ظاهرها البحت ، وتمحل
لما اعترضه بما المعنى الصحيح في غنى عنه ، ومنهم من ادعى التقديم
والتأخير ورد آخرها على أولها بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات التي
يتنزه عنها بيان أبلغ كلام).
ورحم الله القاسمي فقد كان رجل فصل يكره طريقة الضعفاء الذين يوهمون الناس
بقولهم : للموضوع أثر ، أو قد ورد شيء من هذا ؛ لأنه ما كل ما ورد يؤخذ
وما كل ما يؤخذ بصحيح وعلى العلماء تبيين ما يعتقدون حقا من دون مهادنة
للجهلة وأشباه العوام الذين تستطيب نفوسهم ذكر الغرائب والعجائب من أجل
رواج سوقهم عند الدهماء ولو استطالوا على كتاب الله وسنة رسوله ، ولو
شوهوا صفاء العقيدة وأدخلوا الأكاذيب وأقحموا الإسرائيليات بما فيها من
العجب العجاب الذي لا يقره عالم من أولي الألباب.
وقد أفضنا في الموضوع لأن تفسير الآية بشكل معوج أصل من الأصول التي يعتمد
عليها الدجالون في تمرير الحيل على الناس ؛ بما يشرحونه من غوامض فيها
وإحالات واستدلالات فاسدة كلها ؛ فلا يخرج السامع منها إلا باضطراب عقيدته
وتشتت نفسه وذهاب نعمة العقل عنه وضياع هدي الكتاب والسنة من بين يديه.
وقصة الملكين كما رواها الكتاب العزيز وردت في سورة البقرة قال تعالى:
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين
كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما
يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون
به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما
يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما
شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)3.
وأغلب ما يتناقله جهلة القصاص مأخوذ من تلمود اليهود قاتلهم الله من
الإصحاح الثالث والثلاثين (مدراس يديكوت) أما التفسير السليم الصحيح الذي
يتفق مع العقيدة السليمة فما نقله القاسمي عن المحققين من العلماء ونسوقه
بتصرف : من أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح وكانا يعلمان
الناس السحر وبلغ من حسن ظن الناس بهما (كما ينخدع الناس لكثير من
الدجالين اليوم) أن ظنوا أنهما ملكان نزلا من السماء وما يعلمانه للناس
إنما هو بوحي من الله ، وبلغ من مكر هذين الرجلين ومحافظتهما على ظن الناس
الحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما: (إنما نحن
فتنة فلا تكفر)4 أي انما نحن أولو فتنة نختبرك أتشكر أم تكفر وننصح لك ألا
تكفر ليزيدا الناس إيهاما بصلاحهما. كالذي يذهب اليوم إلى أحد الدجالين
ممن يضع ذراعا من قماش وله ذقن (ببلاش) يطلب منه أن يجلب له قلب امرأة
متزوجة يحبها وهو من أكبر الذنوب فيقول له الدجال : اتق الله ولا تفعل ولا
أنصحك بذلك ، ولكن إذا كنت مصرا فأنت وما تريد ويعطيه ما يدخله في غضب
الله ولعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ثم يقول القاسمي: ولليهود في ذلك خرافات كثيرة حتى أنهم يعتقدون أن السحر
نزل عليهما من الله ، وهذا كفر مبين رده القرآن المبين وكذب دعواهم في
نزول السحر من السماء وهو ما يصطاد به الدجالون وجهلة المتصدرين للتدريس ؛
قال تعالى : (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين)5 وما هنا نافيه أي
أنه لم ينزل عليهما من شيء ولفظ الملكين وارد هنا حسب عرف الناس بتسميتهم
بذلك ، ومن باب إظهار قبح ما يفعلانه ومناقضته لما يظنه الناس فيهما قال
تعالى (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)6 أي بلغ من أمر ما
يتعلمونه من ضروب الحيل وطرق الإفساد أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم
مجتمع كالمرء وزوجه والمقام كله للذم وبعض الجهال يتمسكون بأن الملكين قد
أنزل عليهما ، ولو كانوا يصاحبون كتاب الله لرأوا فيه ما يفضح باطلهم ؛
قال تعالى : (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون)7 فنص القرآن صراحة أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني
نوعهم .
لماذا كل هذا الشرح؟ لأن هناك كثيرين يعتقدون أمورا هي عين الباطل ، وهناك
كثيرون يتأثرون بهذا الأمر وكثيرون يسمعون به فلا يعرفون حقا يزهق ذلك
الباطل ، والبعض يبحثون فربما وجدوا بين أيديهم تفسيرا حوى أباطيل وخرافات
فيظن أنه وقع بحق وما ثمة هناك منه شيء.
الاستدلال الثاني : قضية سحر النبي صلى الله عليه وسلم وهذه القصة ردها
بعض العلماء جملة وتفصيلا لكونها تناقض قوله تعالى (والله يعصمك من
الناس)8 فكيف يسحرك اليهود؟ والجمهور يقول بها ، ومن أخذ بها (أي قصة سحره
) مُسلِّم بما ورد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط "قل أعوذ برب الفلق"
و "قل أعوذ برب الناس"..)9 وبحديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم (كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنس فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما
وترك ما سواهما)10.
أما قضية تحضير الأرواح! فننقل بإيجاز ما ذكره العلامة الشيخ علي الطنطاوي
في فتاويه قال: أما استحضارها فلا أعتقد صحته وإمكانه وليس لدي دليل أثبت
به بطلانه ؛ أما ما يدعيه ناس بأنهم رأوا حركة أو سمعوا صوتا أو قرؤوا
كتابة وأن الذي فعل ذلك هو الروح المستحضر فأجيب عنه بأن القاعدة عندنا أن
الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال وهذا الذي أبصروه أو
سمعوه يحتمل أن يكون وهما لا واقع له أو أن يكون من عمل جني أو شيطان أو
يكون سببه حيلة خفية دبرها من زعم أنه يستحضر الأرواح كما يفعل سحرة
السيرك ، انتهى.
وكنت سمعت من فضيلة سيدي الوالد رحمه الله أن هناك شخصا قوي الأعصاب ثابت
الجنان دخل في حلقة من تلك الحلقات فتعسرت بعض الأمور على المحضر ، وطلب
الشخص من المحضر أن يحضر له روح النبي صلى الله عليه وسلم فبهت ثم طلب منه
أن يحضر روح خالد بن الوليد وعظماء آخرين فما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وهناك مدرسة كاملة لتحضير الأرواح في العالم فيها أصابع يهودية تلهي الناس
بعفاريت الجن والأشباح والأرواح عن بلاد تضيع وأمم تستعمر وحقوق تسلب وممن
كتب في فضح ذلك الأديب الإسلامي الدكتور محمد محمد حسين في رسالة اسمها
الروحية الحديثة.
ولسنا ننكر أن هناك آفاقا واسعة للروح فإن ذلك نقرؤه في كتاب الله
(ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلا)11
إلا أننا نرفض استدراج اليهود ومخاريق الدجالين واضاعة الأوقات والأعمار
في السفاسف والترهات.
أما الحسد فقد أثبته القرآن في سورة الفلق وهو تمني زوال النعمة وورد في
الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين (أي لا غبطة هنا
وليس معناها تمني زوال النعمة بل سؤال مثلها) ؛ (لا حسد إلا في اثنتين رجل
آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله
مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار)12 قال الإمام القرطبي: الحاسد
لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول ، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع
الشر بالمحسود.
وخلاصة الموضوع كله في هذه الخطبة وما سبقها من الحديث عن عوالم الملائكة
والجن ثم الحديث عن السحر والأرواح والحسد: أن ما خلق الله أعظم مما نحيط
به وهناك عوالم أخرى منها مطيع ومنها عاص ، ولا نؤمن حولها إلا بما ورد
بنص قاطع ، وأن ما فيها من إمكانات الشر فإنما يقع الإنسان فيها بتوليه
لأهلها ، والشيطان ليس له سلطان إلا على الذين يتولونه ، وأن من تمسك
بكتاب الله وسنة رسوله الصحيحة لم يضره شيء. وكما يقول الغزالي رحمه الله:
التعوذ ليس مجرد القول بل القول عبارة عما كان للمتعوذ من ابتعاده بالفعل
عما يتعوذ منه ؛ وفي قصة إبليس من العبرة : عدم الغرور والأدب مع الله كي
لا يصل العبد إلى مساخط الله ، وفي الملائكة عبرة رؤية التقصير في جنب
الله وفي عوالم الجن عبرة الحذر من الانحراف ، والبقاءُ على الصراط ، ومع
كل عبرة آلاف العبر ، وأعظمها أن من دخل هذه الأبواب من غير حجة من كتاب
أو سنة ضل وأضل ، ونحن نؤمن بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة ولا
نقفُ ما ليس لنا به علم ومالا نُسأل عنه يوم الدين ، وفي ديننا ألف جانب
ضائع وألف حمى مستباح وأوطان مستعمرة وجيل يُدفع إلى الفساد دفعا ويهودُ
تمكر وتتربص والجدل فينا قائم والعلم صائم والناس في نوم طويل ، وقصاص بني
إسرائيل فينا يخربون ، وليس لنا من دون الله من عاصم ، ومن اعتصم بالله
فقد هدي إلى صراط مستقيم.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
الإحالات :
1- طه 69.
2- أصل الرواية في مسلم ، صلاة المسافرين وقصرها 814.
3- البقرة 102.
4- الآية السابقة.
5- الآية السابقة.
6- الآية السابقة.
7- الأنبياء 7.
8- المائدة 67.
9- مسلم ، صلاة المسافرين وقصرها 814 ، النسائي ، الاستفتتاح 953.
10- النسائي ، الاستعاذة 5494 ، الترمذي ، الطب 2058 ، وقال:حديث حسن صحيح.
11- الإسراء ، 85.
12- البخاري ، العلم 73 ، مسلم ، صلاة المسافرين وقصرها 815. وغيرهما
منقول للافادة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى ، ونشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له نعبده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، ونشهد
أن الهادي محمدا عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله وكفى بالله شهيدا.
عباد الله اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ؛ أما بعد :
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر
الأمور محدثاتها وكلَّ بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وإن من كلامه
تعالى قوله لموسى عليه السلام في مواجهة فرعون وسحرته : ( قلنا لا تخف إنك
أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيدُ ساحر ولا
يفلح الساحر حيث أتى ) 1 ويحتاج المسلمون إلى هذه العزيمة والصدق في وجه
جيوش من الخرافات تجتاح عقولهم وتبلبل عزائمهم ، والمسؤول عن الموضوع
عاملان ؛ أولهما: الانحطاط الإيماني ومن ورائه كل أنواع الضعف العلمي
والفكري والثقافي والاجتماعي ، وثانيهما: التركيز الشديد خلال مئات السنين
على موضوع السحر وكأن العقيدة لا تقوم إلا عليه مع أنه من أصغر فرعياتها ،
ولا أدري ماذا ينفع أمة تستباح أراضيها وتنتهك أعراضها وتنتهب أموالها
وتنكس راياتها في كل الميادين ، أن يقوم فيها نفر يركزون على موضوع السحر
والسحرة بطريقة مغلوطة حتى غلب التفكير الخرافي على عقول الدهماء وضاع
بينهم العلماء ، لذا نتصدى لطرح الموضوع باختصار فنقول:
السحر في العرف الشرعي مختص بكل أمر يخفى سببه ويُتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع ، ومتى أُطلق أفاد ذم فاعله.
وهل للسحر حقيقة أم هو مجرد تخيل وخداع؟ قال القرطبي: بأن السحر عند
المعتزلة خدع لا أصل له ، وعند الشافعي وسوسة وأمراض ، وعندنا ؛ يقول
القرطبي : "أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء".
وفي كل الحالات فإن الله تعالى لم يتعبدنا ولا يسألنا يوم الدين عن هذا
الأمر ، والذي نسأل عنه هو التوحيد والإخلاص ، وعقيدتنا أنه لا ينفع ولا
يضر شيء إلا بإذن الله ، وقد وردنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله
: (قل هو الله أحد ؛ قل أعوذ برب الفلق ؛ قل أعوذ برب الناس ؛ لم يتعوذ
الناس بمثلهن) وفي رواية النسائي أنه قال لأحد أصحابه (قل: قل هو الله أحد
والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا يكفك كل شيء)2
ولكن الإسرائيليات دخلت في كثير من العقول الشاردة وحتى وجدت لها مكانا
لتزاحم العقيدة النقية بأباطيل وترهات ، وبعض من يدرسون الناس يستدلون لهم
عن السحر بقصة الملكين في سورة البقرة وأغلب ما ذكر فيها إسرائيليات قبيحة
، ومن ذلك قولهم أن ملكين من خيار الملائكة نزلا من السماء ثم فتنا بامرأة
اسمها الزهرة وراوداها عن نفسها ووقعا بها ودخلا في دينها وشربا الخمر
وقتلا نفسا بغير حق ثم استدرجتهما حتى علمت منهما الاسم الذي يُصعد فيه
إلى السماء فعرجت فمسخت كوكبا وهو الذي يسمى الزهرة ، وهذا سخف قبيح وباطل
صريح يتنزه عنه أهل الحق في تفاسيرهم والعلماء في دروسهم ؛ إلا أنَّ قرونا
من الخرافات لا بد أن تدع بعض البصمات الخبيثة فترى أن هناك من لا يزال
يخبط هنا وهناك ويمهد الناس لقبول ما لم يأت به شرع ولا يقره عقل.
ذكر الإمام القاسمي في محاسن التأويل: (أن للعلماء في هذه الآية وجوها
كثيرة فمنهم من نقل الغث والسمين ، وبعضهم وقف مع ظاهرها البحت ، وتمحل
لما اعترضه بما المعنى الصحيح في غنى عنه ، ومنهم من ادعى التقديم
والتأخير ورد آخرها على أولها بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات التي
يتنزه عنها بيان أبلغ كلام).
ورحم الله القاسمي فقد كان رجل فصل يكره طريقة الضعفاء الذين يوهمون الناس
بقولهم : للموضوع أثر ، أو قد ورد شيء من هذا ؛ لأنه ما كل ما ورد يؤخذ
وما كل ما يؤخذ بصحيح وعلى العلماء تبيين ما يعتقدون حقا من دون مهادنة
للجهلة وأشباه العوام الذين تستطيب نفوسهم ذكر الغرائب والعجائب من أجل
رواج سوقهم عند الدهماء ولو استطالوا على كتاب الله وسنة رسوله ، ولو
شوهوا صفاء العقيدة وأدخلوا الأكاذيب وأقحموا الإسرائيليات بما فيها من
العجب العجاب الذي لا يقره عالم من أولي الألباب.
وقد أفضنا في الموضوع لأن تفسير الآية بشكل معوج أصل من الأصول التي يعتمد
عليها الدجالون في تمرير الحيل على الناس ؛ بما يشرحونه من غوامض فيها
وإحالات واستدلالات فاسدة كلها ؛ فلا يخرج السامع منها إلا باضطراب عقيدته
وتشتت نفسه وذهاب نعمة العقل عنه وضياع هدي الكتاب والسنة من بين يديه.
وقصة الملكين كما رواها الكتاب العزيز وردت في سورة البقرة قال تعالى:
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين
كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما
يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون
به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما
يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما
شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)3.
وأغلب ما يتناقله جهلة القصاص مأخوذ من تلمود اليهود قاتلهم الله من
الإصحاح الثالث والثلاثين (مدراس يديكوت) أما التفسير السليم الصحيح الذي
يتفق مع العقيدة السليمة فما نقله القاسمي عن المحققين من العلماء ونسوقه
بتصرف : من أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح وكانا يعلمان
الناس السحر وبلغ من حسن ظن الناس بهما (كما ينخدع الناس لكثير من
الدجالين اليوم) أن ظنوا أنهما ملكان نزلا من السماء وما يعلمانه للناس
إنما هو بوحي من الله ، وبلغ من مكر هذين الرجلين ومحافظتهما على ظن الناس
الحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما: (إنما نحن
فتنة فلا تكفر)4 أي انما نحن أولو فتنة نختبرك أتشكر أم تكفر وننصح لك ألا
تكفر ليزيدا الناس إيهاما بصلاحهما. كالذي يذهب اليوم إلى أحد الدجالين
ممن يضع ذراعا من قماش وله ذقن (ببلاش) يطلب منه أن يجلب له قلب امرأة
متزوجة يحبها وهو من أكبر الذنوب فيقول له الدجال : اتق الله ولا تفعل ولا
أنصحك بذلك ، ولكن إذا كنت مصرا فأنت وما تريد ويعطيه ما يدخله في غضب
الله ولعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ثم يقول القاسمي: ولليهود في ذلك خرافات كثيرة حتى أنهم يعتقدون أن السحر
نزل عليهما من الله ، وهذا كفر مبين رده القرآن المبين وكذب دعواهم في
نزول السحر من السماء وهو ما يصطاد به الدجالون وجهلة المتصدرين للتدريس ؛
قال تعالى : (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين)5 وما هنا نافيه أي
أنه لم ينزل عليهما من شيء ولفظ الملكين وارد هنا حسب عرف الناس بتسميتهم
بذلك ، ومن باب إظهار قبح ما يفعلانه ومناقضته لما يظنه الناس فيهما قال
تعالى (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)6 أي بلغ من أمر ما
يتعلمونه من ضروب الحيل وطرق الإفساد أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم
مجتمع كالمرء وزوجه والمقام كله للذم وبعض الجهال يتمسكون بأن الملكين قد
أنزل عليهما ، ولو كانوا يصاحبون كتاب الله لرأوا فيه ما يفضح باطلهم ؛
قال تعالى : (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون)7 فنص القرآن صراحة أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني
نوعهم .
لماذا كل هذا الشرح؟ لأن هناك كثيرين يعتقدون أمورا هي عين الباطل ، وهناك
كثيرون يتأثرون بهذا الأمر وكثيرون يسمعون به فلا يعرفون حقا يزهق ذلك
الباطل ، والبعض يبحثون فربما وجدوا بين أيديهم تفسيرا حوى أباطيل وخرافات
فيظن أنه وقع بحق وما ثمة هناك منه شيء.
الاستدلال الثاني : قضية سحر النبي صلى الله عليه وسلم وهذه القصة ردها
بعض العلماء جملة وتفصيلا لكونها تناقض قوله تعالى (والله يعصمك من
الناس)8 فكيف يسحرك اليهود؟ والجمهور يقول بها ، ومن أخذ بها (أي قصة سحره
) مُسلِّم بما ورد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط "قل أعوذ برب الفلق"
و "قل أعوذ برب الناس"..)9 وبحديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم (كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنس فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما
وترك ما سواهما)10.
أما قضية تحضير الأرواح! فننقل بإيجاز ما ذكره العلامة الشيخ علي الطنطاوي
في فتاويه قال: أما استحضارها فلا أعتقد صحته وإمكانه وليس لدي دليل أثبت
به بطلانه ؛ أما ما يدعيه ناس بأنهم رأوا حركة أو سمعوا صوتا أو قرؤوا
كتابة وأن الذي فعل ذلك هو الروح المستحضر فأجيب عنه بأن القاعدة عندنا أن
الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال وهذا الذي أبصروه أو
سمعوه يحتمل أن يكون وهما لا واقع له أو أن يكون من عمل جني أو شيطان أو
يكون سببه حيلة خفية دبرها من زعم أنه يستحضر الأرواح كما يفعل سحرة
السيرك ، انتهى.
وكنت سمعت من فضيلة سيدي الوالد رحمه الله أن هناك شخصا قوي الأعصاب ثابت
الجنان دخل في حلقة من تلك الحلقات فتعسرت بعض الأمور على المحضر ، وطلب
الشخص من المحضر أن يحضر له روح النبي صلى الله عليه وسلم فبهت ثم طلب منه
أن يحضر روح خالد بن الوليد وعظماء آخرين فما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وهناك مدرسة كاملة لتحضير الأرواح في العالم فيها أصابع يهودية تلهي الناس
بعفاريت الجن والأشباح والأرواح عن بلاد تضيع وأمم تستعمر وحقوق تسلب وممن
كتب في فضح ذلك الأديب الإسلامي الدكتور محمد محمد حسين في رسالة اسمها
الروحية الحديثة.
ولسنا ننكر أن هناك آفاقا واسعة للروح فإن ذلك نقرؤه في كتاب الله
(ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلا)11
إلا أننا نرفض استدراج اليهود ومخاريق الدجالين واضاعة الأوقات والأعمار
في السفاسف والترهات.
أما الحسد فقد أثبته القرآن في سورة الفلق وهو تمني زوال النعمة وورد في
الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين (أي لا غبطة هنا
وليس معناها تمني زوال النعمة بل سؤال مثلها) ؛ (لا حسد إلا في اثنتين رجل
آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله
مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار)12 قال الإمام القرطبي: الحاسد
لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول ، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع
الشر بالمحسود.
وخلاصة الموضوع كله في هذه الخطبة وما سبقها من الحديث عن عوالم الملائكة
والجن ثم الحديث عن السحر والأرواح والحسد: أن ما خلق الله أعظم مما نحيط
به وهناك عوالم أخرى منها مطيع ومنها عاص ، ولا نؤمن حولها إلا بما ورد
بنص قاطع ، وأن ما فيها من إمكانات الشر فإنما يقع الإنسان فيها بتوليه
لأهلها ، والشيطان ليس له سلطان إلا على الذين يتولونه ، وأن من تمسك
بكتاب الله وسنة رسوله الصحيحة لم يضره شيء. وكما يقول الغزالي رحمه الله:
التعوذ ليس مجرد القول بل القول عبارة عما كان للمتعوذ من ابتعاده بالفعل
عما يتعوذ منه ؛ وفي قصة إبليس من العبرة : عدم الغرور والأدب مع الله كي
لا يصل العبد إلى مساخط الله ، وفي الملائكة عبرة رؤية التقصير في جنب
الله وفي عوالم الجن عبرة الحذر من الانحراف ، والبقاءُ على الصراط ، ومع
كل عبرة آلاف العبر ، وأعظمها أن من دخل هذه الأبواب من غير حجة من كتاب
أو سنة ضل وأضل ، ونحن نؤمن بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة ولا
نقفُ ما ليس لنا به علم ومالا نُسأل عنه يوم الدين ، وفي ديننا ألف جانب
ضائع وألف حمى مستباح وأوطان مستعمرة وجيل يُدفع إلى الفساد دفعا ويهودُ
تمكر وتتربص والجدل فينا قائم والعلم صائم والناس في نوم طويل ، وقصاص بني
إسرائيل فينا يخربون ، وليس لنا من دون الله من عاصم ، ومن اعتصم بالله
فقد هدي إلى صراط مستقيم.
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.
الإحالات :
1- طه 69.
2- أصل الرواية في مسلم ، صلاة المسافرين وقصرها 814.
3- البقرة 102.
4- الآية السابقة.
5- الآية السابقة.
6- الآية السابقة.
7- الأنبياء 7.
8- المائدة 67.
9- مسلم ، صلاة المسافرين وقصرها 814 ، النسائي ، الاستفتتاح 953.
10- النسائي ، الاستعاذة 5494 ، الترمذي ، الطب 2058 ، وقال:حديث حسن صحيح.
11- الإسراء ، 85.
12- البخاري ، العلم 73 ، مسلم ، صلاة المسافرين وقصرها 815. وغيرهما
منقول للافادة