من كتاب : الحرف والصناعات في الحجاز في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم .
الكاتب : عبدالعزيز ابراهيم العمري
الحرف العامة :
1- الحدادة
الحدادة هي معالجة الحديد
كما فهمها اللغويون ويعني ذلك صناعة الحديد وتشكيله بأشكال مطلوبة
للانتفاع بها ويسمى عامل ذلك ( الحداّد ) .
وقد كانت الحدادة قديمة بين الناس نظراً لأنها تسّد حاجات كثيرة لا غنى
للإنسان عنها وأكثر ما توجد الحدادة في المدن والحضر وتكاد تنعدم عند
العرب في البادية , ونظراً لقلة الحاجة إليها فإنهم يجلبون ما يحتاجون
إليه من أدوات قليلة من المدن .
كما ان الأعراب خاصة والعرب عامة كان لديهم احتقار لأهل الصنائع كلها
وبالدرجة الأولى ( الحداد ) فكانوا يعيرونه ويعتبرونه من طبقة وضيعة
وكانوا يسمونه ( القين ) .
وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم تغيير نظرة الناس إلى الحداد بدفعه
ولده ابراهيم الى امرأة قين في المدينة يدعى أبا سيف , لكي ترضع ابراهيم
في الوقت الذي كان الناس يدفعون اولادهم إلى أشراف القبائل وزعمائهم
ليرضعوا اولادهم . وكانت الحدادة منتشرة في مدن الحجاز المختلفة وتلبي
احتياجات الناس المختلفة , وكان معظم الحدادين إما أرقاء أو من أصل غير
عربي نظراً لأحتقار العرب لهذه الصنعة ولمن يقوم بها , وللأسف فهذا
الأحتقار لا زالت له بقية عند البوادي والأعراب الذين ما زالوا ينظرون الى
الصانع باحتقار ويعيرونه وهي عادة من بقايا الجاهلية عندهم وقد استغل هذا
الجانب غير العرب فكانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يقومون بهذه
الصنعة وتدر عليهم الكثير من الأموال , وقد أستغل اليهود ذلك فعملوا
بالحدادة واحتكروها لأنفسهم فكانت مصدر دخل كبير بالنسبة لهم , فكانوا
مختصين في صناعة الاسلحة المختلفة والأدوات الزراعية حتى أصبح لديهم
مستودعات يطلب الناس منهم السلاح والآلات في وقت الحاجة فيدفعونها لهم
بأسعار غالية , كما اننا حين نرى الحدادين الآخرين نكاد لا نجد فيهم
عربياً وإنما معظمهم اما من اليهود أو الموالي .
وعند الكلام على قوله تعالى : (( وقال الذين كفروا إن هذا إفك افتراه
وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءو ظلماً وزوراً )) آية 4 / سورة الفرقان
وقوله تعالى : (( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين )) آية 4 / سورة النحل
نجد ان المفسرين ذكروا اسماء ليهود أو لموال مختلفين في اسمائهم كانوا
صناعا او صياقل في مكة زعم المشركون انهم كانوا يعلمون محمداً صلى الله
عليه وسلم , فرد عليهم القرآن الكريم بهذه الآيات .
ومن ذلك نرى وجود صناع من الموالي في مكة قبل الهجرة النبوية بينتهم لنا كتب التفسير بل ربما ذكرت أسماءهم مع اختلاف فيها .
واما الحدادون الذين عاصروا الرسول فنجد منهم الصحابي الجليل ( خباب بن
الأرت ) الذي كان حداداً في مكة في أول الدعوة وكان يعمل للناس كثيراً من
الحاجات من السلاح والأواني , وقد عمل ( للعاصي بن وائل ) بعض الأشياء
فقال له العاصي لا أعطيك حقك حتى تكفر بمحمد ؟ فقال له خباب لا أكفر حتى
يميتك الله ثم تبعث ؟ فقال العاصي دعني حتى اموت وأبعث فسأوتي مالا وولدا
, فأقضيك فوالله لن تكون آثر عند الله مني , فنزلت قوله تعالى : (( أفرأيت
الذي كفر بآياتنا وقال لآوتين مالاً وولدا )) آية 77 / سورة مريم
وقد كان منهم أيضاً أبو سيف وهو قين في المدينة من الأنصار زوج ام سيف
مرضعة ابراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم , وقد كان الرسول صلى الله
عليه وسلم يزرو ابنه عندهم وقد ذكر انس بن مالك رضي الله عنه ان الرسول
أتى إلى بيت أبي سيف وكان ينفخ في كيره وقد أمتلأ البيت دخاناً .
كما ذكر من الحدادين ( مرزوق الصيقل ) وقد ذكر انه صقل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ذو الفقار ) .
ومن الحدادين في الطائف كان الأزرق بن عقبة الثقفي وكان رومياً حداداً وهو
من رقيق أهل الطائف الذين نزلوا الى الرسول صلى الله عليه وسلم اثناء
حصاره للطائف فأعتقهم .
ومما يدل على كثرة الحدادين في الحجاز في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم
أن الرسول حين أفتتح خيبر احضر منها ثلاثين حداداً وجعلهم في المدينة
يصنعون للناس وينتفع بهم الناس في عمل كثير من حاجاتهم , وهذا العدد يدل
على عظم الحدادة وازدهارها في خيبر في ذلك الوقت فإذا كان قد توافر هذا
العدد الكبير من الحدادين لخيبر وليست بأكبر مدن الحجاز ولا أغناها , فمن
المحتمل جدا توافر اكثر من هذا العدد في مدن الحجاز الكبرى مثل مكة
والمدينة والطائف وغيرها .
وقد كان هؤلاء الصنّاع يلبون حاجات المزارعين من آلات تفيدهم في الزراعة
كالمسحاة والفأس وغيرها وهي مما يستفاد منها في البناء والحفر أيضا .
كما انهم كانوا يقومون بصناعة وصيانة الأسلحة المختلفة فهم يصنعون السيوف
والسكاكين ويصقلونها , ويصنعون الخناجر , كما انهم كانوا يقومون بصنع
الدروع والمغافر وما يتعلق بها من اسلحة الدفاع عن النفس , كما يقومون
بصناعة الرءوس الحديدية والسهام وصقلها بطريقة معينة .
كما يقومون بصناعة الكثير من الحاجيات والأواني مما تحتاج إليه المنازل
كالقدور وغيرها , فقد ذكر أنه كان لعبدالله بن جدعان ( وهو من أشراف مكة )
جفنة للأضياف يستظل بظلها في الهاجرة يأكل منها الراكب على البعير من
عظمها , كما كان الحدادون يقومون بعمل اللجم اللازمة للدواب من الخيل
وغيرها ويصنعون القطع الحديدية التي تدخل في تركيب اللجام , كما ان
النجارين يصنعون كراسي خشبية يضع لها الحدادون أرجلاً من حديد , وقد جلس
الرسول صلى الله عليه وسلم على كرسي بهذا الشكل في مسجده .
أما أدوات الحدادة فكانت معروفه لدى حدادي الحجاز في زمن الرسول صلى الله
عليه وسلم ولولا معرفتهم بهذه الأدوات المساعدة لهم في عملهم ما تمكنوا من
هذه الصنعة .
فهم يعرفون ( الكير ) وهو جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد وقد يكون
مبنياً من الطين ويسمى ( كور ) وهو يساعد على رفع درجة حرارة النار التي
يحمى عليها الحديد فتساعد على تليين الحديد , وقد ورد ذكر الكير في قصة
زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لبيت أبي سيف الحداد السابقة , كما ورد
ذكره في حديث تمثيل الجليس السوء بنافخ الكير .
كما عرفوا المطرقة بل صنعوها أيضاً بأشكال مختلفة تلبي مختلف الحاجات
وعرفوا أدوات أخرى تساعدهم في صنعتهم , فكانوا يلبون حاجات الناس المختلفة
بخبراتهم القليلة وما يتوفر في بيئتهم .
2- الصياغة :
هي حرفة الصائغ , وصاغ الشيئ أي هيأه على مثال مستقيم , وسكبه عليه فانصاغ .
والصياغة تأتي بمعنى حسن الصيغة أي حسن العمل , ويطلق لفظ الصائغ على من
يحترف الصياغة ويعمل في سبك الذهب أو الفضة وغيرها من المعادن الثمينة .
والصياغة والعمل بالمعادن الثمينة كانت قديمة في مختلف المم السابقة ويظهر
ذلك من خلال ما بقي من أثر للفراعنة او لليونان او الفرس وغيرهم من الأمم
القديمة ذات الحضارة .
ويبدو ان أهل الحجاز لديهم معرفة بالصياغة وطرقها ووجد لديهم صواغ قبيل
ظهور الإسلام وبعد ذلك حيث ان أهالي الحجاز في العصر الجاهلي عرفوا الحلي
الذهبية والفضية والنحاسية وغيرها مما يدل على وجود أناس كانوا يعملون هذه
الأشياء إضافة الى أن بعضاً من هذه الحلي كان مستورداً من بلاد أخرى , وقد
كان يتعاطى هذه الصنعة أرذل الناس عند العرب كاليهود والموالي أما الأشراف
فإنهم يربؤون بأنفسهم عن ذلك .
وفي المدينة المنورة اشتهر اليهود بإجادتهم للصياغة حيث ان هناك عدداً
كبيراً من الصواغ من بني قينقاع وغيرهم من يهود حيث نرى أن المؤرخين
يذكرون في سبب غزو الرسول لبني قينقاع ( أن امرأة من المسلمين جلست الى
صائغ من بني قينقاع فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى
ربط ثوبها الى ظهرها , فلما قامت انكشفت عورتها .... القصة ) وحينما أجلى
الرسول يهود بني قينقاع من المدينة وجد الرسول في منازلهم كثيراً من
السلاح وآلات الصياغة وهذه الآلات تدل على أحترافهم للصياغة , يقول ابن
الأثير : ( وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما كان لهم من
مال ولم يكن لهم أرضون وانما كانوا صاغة ) .
وفي حديث عن علي رضي الله عنه قال : لما أردت أن أبتني لفاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلا صواغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي
فناتي بأذخر أردت ان أبيعه من الصواغين وأستعين به في وليمة عرس )
وهكذا نرى من خلال هذه النصوص أن يهود بني قينقاع من أشهر الصواغين في المدينة أيام الرسول صلى الله عليه وسلم .
كما ان مكة المكرمة كان فيها مجموعة من الصواغين كشان المدينة وغيرها وكان
صواغ مكة يستعملون الأذخر في عملهم , يدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه
وسلم قال عنها : ( إنه لا يختلي خلاؤها ولا يعضد شجرها فقال العباس : إلا
الأذخر فإنه للقيون وظهور البيوت فرخص في ذلك ) وهذا يدل على أن هناك
صواغاً وصناعاً في مكة يحتاجون الى الأذخر فرخص لهم الرسول صلى الله لعيه
وسلم في ذلك , وقد كان في المدينة مجموعة من الصواغ ورد ذكر لهم من خلال
النصوص منهم أبورافع الصائغ من المخضرمين , عاصر الرسول وأبابكر وعمر وكان
عمر رضي الله عنه يمازحه ويقول : ( أكذب الناس الصائغ يقول اليوم غداً ) .
كما ان مدن الحجاز الأخرى كالطائف وخيبر ووادي القرى وغيرها لم تكن تخلو من صواغ يقومون بعمل حلي النساء وغيرها مما يختصون بعمله .
وانتاج الصواغ في الحجاز كغيرهم يتعلق بأمور كثيرة من حاجيات الناس فكان
على رأس الأشياء التي يصوغونها الذهب والفضة وكانوا يعملون منه العديد من
الحلي المختلفة التي اشتهرت في بلاد الحجاز أيام الرسول , من خواتم وأسوار
وقلائد وغيرها من الحلي , كما كانوا يعرفون الخلاخل للنساء يقول تعالى :
(( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً
أيها المؤمنون لعلكم تفلحون )) آية 31 / سورة النور
ويدور المفسرين حول هذه الآية على نهي النساء عن أن يضربن بأرجلهن في
المشي حتى لا يسمع صوت خلاخيلهن , فكأنهم يخبروننا ان النساء على هذه
الحال من أظهار صوت الخلخال , فنزلت هذه الآية في النهي عن ذلك .
وقد أشتهر عن بعض النساء كثرة حليهن ومنهن ( بدية بنت غيلان بن مظعون
الثقفية ) و ( الفارعة بنت عقيل الثقفية ) وقد طلبت احدى الصحابيات من
النبي صلى الله عليه وسلم اثناء حصاره الطائف ان فتح الله عليه الطائف ان
يعطيها حلي احدى هاتين المرأتين لانهما كانتا من اكثر النساء حلياً .
ووجدت الحلي عند الكثير من النساء في المدينة وفيها حلي من ذهب وفضة وقد
وردت أخبار ذلك في كتب الحديث واكثرها فيما يتعلق بزكاة الحلي , فذكر عن
(زينب بنت معاوية الثقفية) زوجة ( عبدالله بن مسعود ) رضي الله عنه ان
عندها حلياً من ذهب وفضة , وكان منها طوق من ذهب فيه عشرون مثقالاً .
وقد كان الصواغ يعملون بعض الأشياء الأخرى غير الحلي , من ذلك عمل بعض
الإصلاحات للأسنان والأنف من الذهب , وقد كان هذا معروفاً في الأمم
القديمة , وربما عرف ذلك في زمن النبي صلى الله لعيه وسلم حيث ان عثمان بن
عفان رضي الله عنه كان يربط أسنانه بالذهب .
كما ان الصواغ صنعوا أنفاً صناعية من الفضة ومن الذهب زمن الرسول صلى الله
عليه وسلم لأحد الصحابة فقد كان ( الضحاك بن عرفجة ) قد أصيب أنفه في أحدى
الغزوات فقطع , فصنع له أنف من فضة , فأنتن عليه , فأمره الرسول صلى الله
عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب .
وقد كان الصواغ يقومون بصناعة الخواتم ويكتبون عليها اذا طلب منهم ذلك ,
ولا ادل على هذا من صناعة خاتم النبي صلى الله عليه وسلم , فحينما أراد
الرسول صلى الله عليه وسلم الكتابة الى ملك الروم قيل له انهم لا يقرؤون
الكتاب الا اذا كان مختوماً .
فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصنع لهم خاتم , فصنع له خاتم من الفضة ونقش عليه ( محمد رسول الله ) وكل كلمة في سطر .
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أحد خاتماً عليه نقش مثل نقشه ,
وقد ظل هذا الخاتم عند ابي بكر ثم عند عمر ثم عند عثمان حتى سقط من يده في
بئر أريس في المدينة وحاول المسلمون استخراجه فلم يستطيعوا .
وقد كان المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذون خواتم بأسمائهم
اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد دلت على ذلك الأحداث التي وقعت في
عهد عثمان رضي الله عنه .
وقد استخدم بعض الجاهليين أواني الذهب والفضة فكان في مكة وغيرها من مدن
الحجاز بعض الأثرياء الذين يستعملون أواني الذهب والفضة وكان يعملها لهم
بعض الصاغة , وقد حرم الإسلام أواني الذهب والفضة وشدد الرسول في ذلك مما
يؤكد ان بعض الناس كان يستعملها في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم , كما
ان الصواغ كانوا يقومون بتحلية السيوف وتزيينها بالذهب أوالفضة وذلك
أفتخاراً من العرب بالسلاح وتكريماً له , فقد كان سيف ابي جهل الذي غنمه
المسلمون بعد معركة بدر مزيناً بالفضة وفيه حلق منها , كما ان سيف الرسول
صلى الله عليه وسلم الذي دخل به مكة يوم الفتح كان محلى بالذهب والفضة ,
وكذلك الحال بالنسبة لبعض الأقواس أو الرماح التي كان بعضهم يحليها بالذهب
او الفضة وذلك لاعتزازه ولدواعي الفخر بهذا السلاح .
وقد عرف الصواغون الكثير من الأدوات التي تساعدهم في صنعتهم فكانوا
يستعملون ( الكير ) لاذابة المعادن بفعل الحرارة وسكبها على الشكل المطلوب
, كما انهم أستعملوا مطارق صغيرة خاصة بهم وذلك لدقة عملهم , ويسمون اصغر
المطارق عندهم ( العسقلان ) كما يستعمل الصواغ منفاخاً صغيراً وهو عبارة
عن حديدة مجوفة ينفخ فيها الصائغ وتسمى ( الحملاج ) , كما عرفوا بعض
الآلات الصغيرة التي تدخل في الخواتم والأساور اثناء تصنيعها او نقشها .
كما ان الصواغ كان لديهم ما يستعينون به في الكتابة على الخواتم او الحلي
بدليل خاتم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا سابقاً انه نقش له في
المدينة وما ذكرناه عن الصواغ وما يتعلق بهم قد تكون النصوص أجبرتنا على
تحديدة إما في مكة او المدينة او الطائف إلا أن مدن الحجاز وقراها الأخرى
كخيبر ووادي القرى يمكن ان يكون قد وجد فيها صواغ مهرة خصوصاً إذا علمنا
ان سكان خيبر ووادي القرى من يهود وهو اناس يجيدون صناعة الحلي وحرفة
الصياغة .
عدل سابقا من قبل عبد الحميد في الخميس يونيو 05, 2008 8:53 am عدل 1 مرات