المحاضرة "09 / 30" : التوبة النصوح : أركانها وشروطها ، لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
المذيع :
بسم الله ، والحمد لله ، بسم الله خير الأسماء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ، وهو السميع العليم ، بسم الله نستفتح بالذي هو خير ، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا ، وإليك المصير .
إخوة الإيمان والإسلام ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحييكم في مستهل حلقة جديدة من برنامجنا منهج التائبين ، أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الأستاذ :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المذيع :
وصلنا إلى الحديث عن التوبة النصوح الصادقة ، كيف تعرفون التوبة النصوح ؟ ما هي أركانها ؟ ما هي شروطها ؟
الأستاذ :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
التوبة النصوح هي التوبة التي لا رجوع عنها ، والتوبة الأولى هي أهون توبة على المذنب ، كأن الحجاب الذي كان بينه وبين الله يهتك في ثانية ، وكأن الله عز وجل يلقي في روعه أنه غفر له ، وأنه قبل ، وكأن أحمالاً كالجبال أزيحت عن كاهله ، ذلك أن الإنسان حينما يسأل الله قبول التوبة يجيبه الله عز وجل بقبولها ، يقول : يا رب ، لقد تبت إليك ، يقول : عبدي ، وأنا قد قبلت ، وقد ورد في بعض الآثار أن الله عز وجل يخاطب بعض أنبيائه يقول : يا داود ، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إلي ، هذه إرادتي في المعرضين فكيف في المقبلين ؟
المذيع :
سبحان الله ، وهو الغني عن عباده !
الأستاذ :
أحد العارفين يقول : يا رب ، إذا كانت رحمتك بمن قال : أنا ربكم الأعلى ، فكيف رحمتك بمن قال : سبحان ربي الأعلى ؟ وإذا كانت رحمتك بمن قال : ما علمت لكم من إله غيري ، فكيف رحمتك بمن قال : لا إله إلا الله ؟
التوبة النصوح من ثمارها اليانعة أن الله ينسي بقاع الأرض والملائكة جميعاً كلهم خطايا المذنب وذنوبه ، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً ، فقد اصطلح مع الله .
والله أخ زياد ، أنا أشعر أن التوبة النصوح هي عرس المؤمن ، يوم الفرحة الكبرى ، أنه فتح مع الله صفحة جديدة ، أن هذا الماضي كله أصبح في طي النسيان ، لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي .
مهما يكن ذنبك كبيراً فرحمة الله أوسع من ذنبك !
فالتوبة النصوح هي التوبة التي تعقد من قبل عبد تألم أشد الألم من ذنبه ، ثم عقد العزم على ألا يعود لمثل هذا الذنب مادام حياً ، هذه التوبة النصوح تشعر التائب أن جبالاً كانت جاثمة على صدره مهما وأزيحت عنه ، ولا دل على ذلك من تصوير النبي e ، وكان عليه الصلاة والسلام سيد البيان ، تعلمنا في الجامعة أن أعلى نص في اللغة العربية القرآن الكريم ، ويليه الحديث الشريف ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش )).
(ورد في الأثر)
وهذا أسلوب رائع في البلاغة ، تأكيد المديح بما يشبه الذم ، النبي عليه الصلاة والسلام صوّر أعرابياً يركب ناقة عليها طعامه وشرابه ، فلما أدركه التعب جلس ليستريح ، أفاق فلم يجد الناقة ، فأيقن بالهلاك ، فصار يبكي حتى أخذته سنة من النوم ، فأفاق فرأى الناقة فاختل توازنه فقال : يا رب أنا ربك وأنت عبدي ! عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا ، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي ، وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ )) .
(صحيح مسلم)
فالتوبة النصوح توبة في الأعماق ، ويسبقها ندم شديد ، وتتبعها سعادة لا توصف ، ومن ألطف ما قاله العلماء في التوبة النصوح قول ابن القيم رحمه الله تعالى : " ما الظن بمحبوب لك تحبه حباً شديداً أسره عدوك ، وحال بينك وبينه ، وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ، ويعرضه لأنواع الهلاك ، وأنت أولى به منهم ، وهو غرسك وتربيتك ، ثم إنه انفلت من عدوه ، ووافاك على غير ميعاد ، فلم يفاجئك إلا وهو على بابك يتملقك ، ويطربك ، ويستعينك ، ويمرغ خديه على تراب أعتابك ، فكيف يكون فرحك به ، وقد اختصصته لنفسك ، ورضيته لقربك ، وآثرته على سواه ؟ ولست الذي أوجدته ، وخلقته ، وأسبغت عليه نعمك ، والله عز وجل هو الذي أوجد عبده ، وخلقه ، وكونه ، وأسبغ عليه نعمه ، وهو يحب أن يتمها عليه ، فيصير مظهراً لنعمه قابلاً لها شاكراً لها ، محباً لوليها مطيعاً له عابداً له معادياً لعدوه مبغضاً له عاصياً له " .
هذا كلام طيب حول ما ينبغي أن نعلمه عن ذات الله عز وجل حينما يتوب عبده المؤمن إليه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا )) .
(سنن الترمذي)
وينبغي أن أضيف إلى هذا الموضوع حكاية حكاها أحد العلماء قال : رأى في بعض سكك المدينة باباً قد فُتح ، وخرج منه صبي ، يستغيث ، ويبكي ، وأمه خلفه تطرده حتى خرج ، فأغلقت الباب في وجهه ، ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ، ثم وقف مفكراً ، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ، ولا من يأويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزيناً ، فوجد الباب مرتجًا ، فتوسده ، ووضع خده على عتبة الباب ، ونام ، فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه ، والتزمته تقبّله ، وتبكي ، وتقول : يا ولدي ، أين تذهب عني ؟ ومن يأويك سواي ؟ ألم أقل لك لا تخالفني ؟ ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ، وإرادة الخير لك ، ثم أخذته ، ودخلت فتأمل قول الأم : لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة ، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : (( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَمَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ .... : (( أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَرْحَمَ بِعِبَادِهِ مِنَ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا ... )) .
(سنن ابن ماجة)
وأين تقع رحمة الأم من رحمة الله عز وجل الذي وسعت رحمته كل شيء ؟
شيء متعلق بهذا الموضوع ، هو أن الذي يرضي الله عز وجل أن نبادر سريعاً إلى التوبة النصوح ، ولعلي أذكر الإخوة المستمعين بأن خصائص التوبة العلم والحال والعمل ، فكلما كان العلم أعمق ، وأمتن ، وأقوى كان الندم أشد ، وكلما كان الندم أشد كانت التوبة أكثر متانة وأطول أمداً ، فالتوبة النصوح سهلة جداً ، ولكن العبرة أن يثبت الإنسان عليها ، وسهل جداً في كل مجالات الحياة أن تصل إلى شيء ، ولكن البطولة أن تبقى فيه ، سهل أن تصل إلى القمة ، ولكن البطولة أن تبقى في القمة ، سهل أن تنجح ولكن البطولة أن تبقى ناجحاً ، وأعيد ، وأكرر : إن أهون توبة يتوبها الإنسان أول توبة .
المذيع :
هل هناك توبة ثانية ؟
الأستاذ :
حينما يقع في الذنب نفسه كأنه نقض التوبة ، عندئذ يجد صعوبات في أن يتوب ثانية ، أنا أنصح الإخوة الكرام من يتابعنا في هذا البرنامج أنه إذا عقد العزم على التوبة النصوح بطولته لا في عقد العزم عليها ، بل في متابعتها وفي الاستمرار عليها .
ما من حاج يذهب إلى بيت الله الحرام ؟ وحينما يقترب من الحجر الأسود يقول : عهداً لك يا رب على طاعتك ، فإذا عاد من الديار المقدسة ، وعاد إلى ما كان عليه ، فكأنه نقض هذا العهد التوبة النصوح أساسها المتابعة ، أساسها الثبات ، ومادام الإنسان مع الله يشعر بقوة من الله تمده:
معنى ذلك أن المؤمن إذا آمن إلى الله الإيمان الصحيح ، وتاب إلى الله توبة نصوحًا ينبغي أن يبقى مفتقراً إلى الله بأن يمده بقوة يثبت بها على هذه التوبة ، لأن مؤمنين لا يعدون ولا يحصون تابوا ، ونقضوا التوبة ، فما كان لهم عند الله من عهد .
المذيع :
سؤالي هنا فضيلة الشيخ دكتور محمد راتب النابلسي : هل يتوب المرء من ذنب بعينه ؟ أم أنه يتوب عن معصية الله سبحانه وتعالى ؟
الأستاذ :
إذا كان سالكاً طريق الإيمان ، وزلت قدمه في موضوع محدد يتوب من هذا الذنب بالذات ، أما إذا كان شارداً عن الله في الأصل فهذا الإنسان يحتاج إلى توبة عامة عن كل ما نهى الله عنه ، هناك من يشرد عن الله شروداً كثيراً ، فإذا أراد أن يتوب ينبغي أن يتوب عن كل معصية من دون تحديد ، أن يلتزم أمر الله وبابه ، أما إذا كان سالكاً طريق الإيمان ، وزلت قدمه في موضوع محدد يمكن أن يتوب من هذا الذنب بالذات .
المذيع :
نذكر أن أيضاً من أركان التوبة ما كان بين المرء وأخيه الإنسان من حقوق يجب أن يؤديها له ، أو أن يتسامح مع هذا الإنسان .
الأستاذ :
حينما تحدثنا في حلقة سابقة عن أن من أركان التوبة العلم والحال والعلم ، فالعمل وزعناه إلى ثلاثة أبواب : عقد العزم على ألا يفعل هذا الذنب في المستقبل ، والإقلاع عنه في الحاضر ، وإصلاح ما مضى ، إصلاح ما مضى أن تؤدي الحقوق إلى أصحابها ، ذلك لأن حقوق العباد مبنية على المشاححة ، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة .
المذيع :
نتابع غداً بإذن الله تعالى الحديث عن التوبة النصوح الصادقة ، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، وأشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم ومتابعتهم ، حتى الملتقى لكم التحية ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بسم الله الرحمن الرحيم
المذيع :
بسم الله ، والحمد لله ، بسم الله خير الأسماء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء ، وهو السميع العليم ، بسم الله نستفتح بالذي هو خير ، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا ، وإليك المصير .
إخوة الإيمان والإسلام ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحييكم في مستهل حلقة جديدة من برنامجنا منهج التائبين ، أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً ومرحباً بكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الأستاذ :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المذيع :
وصلنا إلى الحديث عن التوبة النصوح الصادقة ، كيف تعرفون التوبة النصوح ؟ ما هي أركانها ؟ ما هي شروطها ؟
الأستاذ :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
التوبة النصوح هي التوبة التي لا رجوع عنها ، والتوبة الأولى هي أهون توبة على المذنب ، كأن الحجاب الذي كان بينه وبين الله يهتك في ثانية ، وكأن الله عز وجل يلقي في روعه أنه غفر له ، وأنه قبل ، وكأن أحمالاً كالجبال أزيحت عن كاهله ، ذلك أن الإنسان حينما يسأل الله قبول التوبة يجيبه الله عز وجل بقبولها ، يقول : يا رب ، لقد تبت إليك ، يقول : عبدي ، وأنا قد قبلت ، وقد ورد في بعض الآثار أن الله عز وجل يخاطب بعض أنبيائه يقول : يا داود ، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إلي ، هذه إرادتي في المعرضين فكيف في المقبلين ؟
المذيع :
سبحان الله ، وهو الغني عن عباده !
الأستاذ :
أحد العارفين يقول : يا رب ، إذا كانت رحمتك بمن قال : أنا ربكم الأعلى ، فكيف رحمتك بمن قال : سبحان ربي الأعلى ؟ وإذا كانت رحمتك بمن قال : ما علمت لكم من إله غيري ، فكيف رحمتك بمن قال : لا إله إلا الله ؟
التوبة النصوح من ثمارها اليانعة أن الله ينسي بقاع الأرض والملائكة جميعاً كلهم خطايا المذنب وذنوبه ، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً ، فقد اصطلح مع الله .
والله أخ زياد ، أنا أشعر أن التوبة النصوح هي عرس المؤمن ، يوم الفرحة الكبرى ، أنه فتح مع الله صفحة جديدة ، أن هذا الماضي كله أصبح في طي النسيان ، لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي .
مهما يكن ذنبك كبيراً فرحمة الله أوسع من ذنبك !
فالتوبة النصوح هي التوبة التي تعقد من قبل عبد تألم أشد الألم من ذنبه ، ثم عقد العزم على ألا يعود لمثل هذا الذنب مادام حياً ، هذه التوبة النصوح تشعر التائب أن جبالاً كانت جاثمة على صدره مهما وأزيحت عنه ، ولا دل على ذلك من تصوير النبي e ، وكان عليه الصلاة والسلام سيد البيان ، تعلمنا في الجامعة أن أعلى نص في اللغة العربية القرآن الكريم ، ويليه الحديث الشريف ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش )).
(ورد في الأثر)
وهذا أسلوب رائع في البلاغة ، تأكيد المديح بما يشبه الذم ، النبي عليه الصلاة والسلام صوّر أعرابياً يركب ناقة عليها طعامه وشرابه ، فلما أدركه التعب جلس ليستريح ، أفاق فلم يجد الناقة ، فأيقن بالهلاك ، فصار يبكي حتى أخذته سنة من النوم ، فأفاق فرأى الناقة فاختل توازنه فقال : يا رب أنا ربك وأنت عبدي ! عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا ، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي ، وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ )) .
(صحيح مسلم)
فالتوبة النصوح توبة في الأعماق ، ويسبقها ندم شديد ، وتتبعها سعادة لا توصف ، ومن ألطف ما قاله العلماء في التوبة النصوح قول ابن القيم رحمه الله تعالى : " ما الظن بمحبوب لك تحبه حباً شديداً أسره عدوك ، وحال بينك وبينه ، وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ، ويعرضه لأنواع الهلاك ، وأنت أولى به منهم ، وهو غرسك وتربيتك ، ثم إنه انفلت من عدوه ، ووافاك على غير ميعاد ، فلم يفاجئك إلا وهو على بابك يتملقك ، ويطربك ، ويستعينك ، ويمرغ خديه على تراب أعتابك ، فكيف يكون فرحك به ، وقد اختصصته لنفسك ، ورضيته لقربك ، وآثرته على سواه ؟ ولست الذي أوجدته ، وخلقته ، وأسبغت عليه نعمك ، والله عز وجل هو الذي أوجد عبده ، وخلقه ، وكونه ، وأسبغ عليه نعمه ، وهو يحب أن يتمها عليه ، فيصير مظهراً لنعمه قابلاً لها شاكراً لها ، محباً لوليها مطيعاً له عابداً له معادياً لعدوه مبغضاً له عاصياً له " .
هذا كلام طيب حول ما ينبغي أن نعلمه عن ذات الله عز وجل حينما يتوب عبده المؤمن إليه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا )) .
(سنن الترمذي)
وينبغي أن أضيف إلى هذا الموضوع حكاية حكاها أحد العلماء قال : رأى في بعض سكك المدينة باباً قد فُتح ، وخرج منه صبي ، يستغيث ، ويبكي ، وأمه خلفه تطرده حتى خرج ، فأغلقت الباب في وجهه ، ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ، ثم وقف مفكراً ، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ، ولا من يأويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزيناً ، فوجد الباب مرتجًا ، فتوسده ، ووضع خده على عتبة الباب ، ونام ، فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه ، والتزمته تقبّله ، وتبكي ، وتقول : يا ولدي ، أين تذهب عني ؟ ومن يأويك سواي ؟ ألم أقل لك لا تخالفني ؟ ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ، وإرادة الخير لك ، ثم أخذته ، ودخلت فتأمل قول الأم : لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة ، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : (( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَمَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ .... : (( أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَرْحَمَ بِعِبَادِهِ مِنَ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا ... )) .
(سنن ابن ماجة)
وأين تقع رحمة الأم من رحمة الله عز وجل الذي وسعت رحمته كل شيء ؟
شيء متعلق بهذا الموضوع ، هو أن الذي يرضي الله عز وجل أن نبادر سريعاً إلى التوبة النصوح ، ولعلي أذكر الإخوة المستمعين بأن خصائص التوبة العلم والحال والعمل ، فكلما كان العلم أعمق ، وأمتن ، وأقوى كان الندم أشد ، وكلما كان الندم أشد كانت التوبة أكثر متانة وأطول أمداً ، فالتوبة النصوح سهلة جداً ، ولكن العبرة أن يثبت الإنسان عليها ، وسهل جداً في كل مجالات الحياة أن تصل إلى شيء ، ولكن البطولة أن تبقى فيه ، سهل أن تصل إلى القمة ، ولكن البطولة أن تبقى في القمة ، سهل أن تنجح ولكن البطولة أن تبقى ناجحاً ، وأعيد ، وأكرر : إن أهون توبة يتوبها الإنسان أول توبة .
المذيع :
هل هناك توبة ثانية ؟
الأستاذ :
حينما يقع في الذنب نفسه كأنه نقض التوبة ، عندئذ يجد صعوبات في أن يتوب ثانية ، أنا أنصح الإخوة الكرام من يتابعنا في هذا البرنامج أنه إذا عقد العزم على التوبة النصوح بطولته لا في عقد العزم عليها ، بل في متابعتها وفي الاستمرار عليها .
ما من حاج يذهب إلى بيت الله الحرام ؟ وحينما يقترب من الحجر الأسود يقول : عهداً لك يا رب على طاعتك ، فإذا عاد من الديار المقدسة ، وعاد إلى ما كان عليه ، فكأنه نقض هذا العهد التوبة النصوح أساسها المتابعة ، أساسها الثبات ، ومادام الإنسان مع الله يشعر بقوة من الله تمده:
معنى ذلك أن المؤمن إذا آمن إلى الله الإيمان الصحيح ، وتاب إلى الله توبة نصوحًا ينبغي أن يبقى مفتقراً إلى الله بأن يمده بقوة يثبت بها على هذه التوبة ، لأن مؤمنين لا يعدون ولا يحصون تابوا ، ونقضوا التوبة ، فما كان لهم عند الله من عهد .
المذيع :
سؤالي هنا فضيلة الشيخ دكتور محمد راتب النابلسي : هل يتوب المرء من ذنب بعينه ؟ أم أنه يتوب عن معصية الله سبحانه وتعالى ؟
الأستاذ :
إذا كان سالكاً طريق الإيمان ، وزلت قدمه في موضوع محدد يتوب من هذا الذنب بالذات ، أما إذا كان شارداً عن الله في الأصل فهذا الإنسان يحتاج إلى توبة عامة عن كل ما نهى الله عنه ، هناك من يشرد عن الله شروداً كثيراً ، فإذا أراد أن يتوب ينبغي أن يتوب عن كل معصية من دون تحديد ، أن يلتزم أمر الله وبابه ، أما إذا كان سالكاً طريق الإيمان ، وزلت قدمه في موضوع محدد يمكن أن يتوب من هذا الذنب بالذات .
المذيع :
نذكر أن أيضاً من أركان التوبة ما كان بين المرء وأخيه الإنسان من حقوق يجب أن يؤديها له ، أو أن يتسامح مع هذا الإنسان .
الأستاذ :
حينما تحدثنا في حلقة سابقة عن أن من أركان التوبة العلم والحال والعلم ، فالعمل وزعناه إلى ثلاثة أبواب : عقد العزم على ألا يفعل هذا الذنب في المستقبل ، والإقلاع عنه في الحاضر ، وإصلاح ما مضى ، إصلاح ما مضى أن تؤدي الحقوق إلى أصحابها ، ذلك لأن حقوق العباد مبنية على المشاححة ، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة .
المذيع :
نتابع غداً بإذن الله تعالى الحديث عن التوبة النصوح الصادقة ، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، وأشكر الإخوة المستمعين لحسن إصغائهم ومتابعتهم ، حتى الملتقى لكم التحية ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .