قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد: 11].
حاجة الأمة الإسلامية اليوم للتغيير أضحت ملحة أيما إلحاح في ظل الموت السريري الذي تعاني منه أنظمتها الحاكمة ذات السياسات المهترءة والتوجهات الضحلة والضعف الواضح الذي جعل منها ألعوبة وسط الأمم وأضحت بسببه الدماء المسلمة أرخص الدماء.
من هنا أقدم نموذجاً من نماذج التاريخ يشابه عصرنا الحالي متبوعاً ببشارة النصر والتمكين إذا صدقت العزائم وصلحت النيات وتغيرت الهمم والأعمال...
أولاً: مشابهة الزمن الحالي لما قبل عصر صلاح الدين:
يقول مؤرخ الصليبيين مونروند واصفاً الغزو الصليبي لبيت المقدس عام 1099م: "اجتمع ديوان المشورة العسكرية الصليبي وأعطى حكماً مريعاً وهو قتل كل مسلم باق داخل المدينة. وحسب شاهد عيان صليبي فقد قتل حوالي سبعين ألفا من السكان، والتجأ البعض إلى جامع عمر (الأقصى) فلحقهم الخيالة والمشاة وأعملوا السيف فيهم حتى إن القناطر على الباب احتجزت الدماء فكانت إلى الركب وإلى لجام الخيل... بعد تلك الفظائع استعملوا مسجد قبة الصخرة كنيسة، والأقصى مسكناً لفرسان الداوية الذين كانوا يتقربون لربهم بذبح العرب والمسلمين". أ ه
لو فقط غيرنا المسميات ما تغير من الواقع إلا ما نذر، فلو استبدلنا الصليبيين باليهود لقرأنا تاريخ الأمس كأننا نقرأ تاريخ اليوم في وصف المجازر اليهودية للمسلمين بالمسجد الأقصى وما حوله من سائر الأراضي الفلسطينية، وما مجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا وغزة منا ببعيد، وكذا تدنيس اليهود لباحات المسجد الأقصى ومحاولات هدمه المحاولة تلو الأخرى.
ثانياً: مشابهة الإمارات الإسلامية المتناحرة والأنظمة العربية الحالية:
يقول ابن شداد: "سقطت القدس في أيدي الصليبيين عام 1099م بعد خمسة قرون من الحكم الإسلامي نتيجة صراعات على السلطة بين السلاجقة والفاطميين وبين السلاجقة أنفسهم. وقتل الصليبيون فور دخولهم القدس قرابة 70 ألفاً من المسلمين وانتهكوا المقدسات الإسلامية. وقامت في القدس منذ ذلك التاريخ مملكة لاتينية تحكم من قبل ملك كاثوليكي فرض الشعائر الكاثوليكية على المسيحيين الأرثوذكس مما أثار غضبهم" أ. ه
ما نراه اليوم من ضعف الأنظمة العربية، والخلافات الدائمة بين بعضها البعض واستحالة اتفاقهم على عمل يجمعهم يصب في مصلحة الأمة، بجانب علمانية معظم الأنظمة الحاكمة وبعدها عن شرع ربها ومعاداتها للعلماء والدعاة وإقصاءهم من واقع المسلمين، بل يصل الأمر في كثير من الأحيان للسجن والتعذيب لمن نطق منهم بالحق ولم يخف في الله لومة لائم، ووصل بالفعل الأمر لقتل بعض العلماء والدعاة كما حدث للداعية الإسلامي الأشهر سيد قطب صاحب الظلال رحمه الله رحمة واسعة وغيره كثير على مستوى العالم الإسلامي.
ثالثاً: بداية النبتة الطيبة وجيل النصر:
يصف ابن خلكان نشأة صلاح الدين وكأنه يصف للأمة اليوم الدواء، عندما يصف نشأة صلاح بأنه تربى على الخير وطرائق المعروف كما تربى على حب الجهاد والاجتهاد فيه...
يقول بن خلكان عن صلاح الدين ومولده:
"أخبرني بعض أهل بيتهم وقد سألته: "هل تعرف متى خرجوا من تكريت؟"، فقال: "سمعت جماعة من أهلنا يقولون إنهم أخرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين، فتشاءموا به وتطيروا منه، فقال بعضهم لعل فيه الخيرة وما تعلمون فكان كما قال والله أعلم".
ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع، ولما ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين، وكانت مخايل السعادة عليه لائحة والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويؤثره، ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد.
وكانت هذه النبتة الصالحة في الأرض الطيبة هي القائد الذي قاد الأمة لتحرير القدس:
قال ابن شداد: "لمّا تسلم صلاح الدين عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك، واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل فسار نحوه معتمدا على الله تعالى، مفوضا أمره إليه، منتهزا الفرصة في فتح باب الخير الذي حث على انتهازه بقوله من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه.
وكان نزوله عليه في يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة 583ه، وكان نزوله بالجانب الغربي، وكان معه من كان مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، وحزر أهل الخبرة ممن كان معه من كان فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفا خارجا عن النساء والصبيان، ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ،ونصب المناجيق وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم.
ولما رأى أعداء الله الصليبيون ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم، وظهرت لهم إمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم، وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر، وعلى حصونهم من التخريب والهدم، وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان، واستقرت الأمور بالمراسلة من الطائفتين، وكان تسلمه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم، فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم، وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى إن شاء الله.
وكان فتحه عظيما شهده من أهل العلم خلق كثير، وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسره الله تعالى على يده من فتوح الساحل وقصده القدس قصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلف أحد منهم، وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه، وخطب القاضي محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن الزكي".
وقد كتب عماد الدين الأصبهاني رسالة في فتح القدس،وجمع كتابا سماه الفتح القسي في الفتح القدسي وهو في مجلدين ذكر فيه جميع ما جرى في هذه الواقعة.
وكان قد حضر الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النابلسي الشاعر المشهور هذا الفتح فأنشد السلطان صلاح الدين قصيدته التي أولها:
هذا الذي كانت الآمال تنتظر***فليوف لله أقوام بما نذروا
وهي طويلة تزيد على مائة بيت يمدحه ويهنيه بالفتح.
يقول بهاء الدين بن شداد في (السيرة الصلاحية): "نكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة، وكان شكلا عظيما، ونصر الله الإسلام على يده نصرا عزيزا، وكان الإفرنج قد استولوا على القدس سنة 492ه ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين، وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين دينارا، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارا واحدا، فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيرا، وأفرج عمن كان بالقدس من أسرى المسلمين وكانوا خلقا عظيما، وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه، وتقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه وهي مدينة صور، ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جبي له شيء، وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألفا، وكان رحيله عنه يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان من سنة 583ه".
رابعاً: أين جيل صلاح؟، أين جيل النصر؟
لا شك أن وسط الليل البهيم الذي تعيشه الأمة أشعة من ضياء تبشر بقرب الفجر، ولكن يجب على كل الأمة احتضان هذه الآشعة النورانية، ويجب على الجميع رعاية النبتات الطيبة ليخرج للأمة صلاح الدين جديد، ولكن من أين تتأتى تلك البشائر وكيف؟؟
1- مراكز القرآن و(الكتاتيب): وهي اليوم ولله الحمد منتشرة في كافة بقاع الديار الإسلامية ولكن تحتاج للمناخ المناسب والتربة الصالحة، فعلى الشعوب المحافظة على مراكز القرآن، وعلى الأنظمة التي خنقت الدعوة والدعاة وحاربتهم أن تفسح الطريق لمشاعل النور لتضيء الطريق للأمة الحائرة لتخرج من تيه الظلام والعلمانية وتستضيء بنور الحق وتستعيد عافيتها؛ فأمة بلا كتاب أمة ضائعة، بل والله الغرب الكافر يضع الأيدلوجيات والفلسفات التي تناسب توجهاته ويبني عليها أجياله، فما بالنا بأمة بين يديها خير كتاب، وأصفى منهج وأصدق عقيدة، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو تنزيل العزيز الحكيم الذي لا يأمر بشيء إلا لحكمة بالغة فيها كمال المصلحة للخلق، ولا ينهى عن شيء إلا وفي نهيه تمام المصلحة للخلق لدفع المضار والمهالك، لذا فجيل النصر هو الجيل الذي لابد أن يتربى على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- ومن هنا فعلى مراكز القرآن والكتاتيب أن تتزود بالدعاة والعلماء والمربين الذين يربون أبناء المسلمين على تطبيق القرآن تطبيقاً عملياً من خلال تدريس السنة النبوية وتربية الأطفال عليها، سواء بتصحيح العقائد والأخلاق والعبادات، لذا ينبغي ألا تكتفي هذه المراكز والكتاتيب بمجرد التلقين للقرآن وأحكام التجويد، بل لابد أن يتربى أبناء الإسلام على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة وسبيله القويم الذي لا يتم العمل بالقرآن إلا من خلاله؛ فالسنة شارحة وموضحة للقرآن ومبينة بياناً عملياً لصراط الله المستقيم.
3- دور الأسرة في رعاية البراعم الإيمانية دور عظيم؛ فالأسرة هي التربة التي تترعرع فيها النبتات فلو صلحت لصلحت النبتة ولو فسدت لصارت الشجرة خبيثة عياذاً بالله , لذا فعلى المجتمع أن يتكاتف لإخراج جيل النصر الذي لن يخرج إلا بجهود وتكاتف الجميع والعودة الصادقة لدين الله والنية الصالحة لضرورة الإصلاح والتغيير والهمة العالية للخروج بالأمة من كبوتها.
4- دور مؤسسات المجتمع للنهوض بالبراعم الإيمانية: هذا الدور في ظل الواقع الحالي المظلم يعني ضرورة تحمل كل مسلم لمسئولية إصلاح المجتمع وتغيير الظلام المحيط فكل مسلم على ثغر، سواء صغر أو كبر هذا الثغر فعلى المسلم ألا يستصغر نفسه أو يقلل من شأن عمله فكلنا راع وكلنا مسئول أمام الله عما استرعاه، ولو صلح الأفراد لصلحت مؤسسات المجتمع لا محالة، فقط المطلوب من كل منا أن يصدق ويبدأ في التغيير بإصلاح النفس ودعوة الغير وإنكار المنكر بما يستطيع.
5- دور المؤسسات العسكرية والأمنية: يجب أن تتحول هذه المؤسسات من محاربة الشريعة والدعاة إلى خدمة الشريعة والمطالبة بها، وهذا التحول لكي يحدث لابد أن تتضافر الجهود ولابد من بيان خطأ الاستراتيجيات الحالية التي تعمل من خلالها تلك المؤسسات، ولابد من مخاطبة العلماء والدعاة لرؤوس المؤسسات العسكرية والأمنية وقادتها بضرورة الإصلاح، وبيان عوار العمل الحالي لهذه المؤسسات وضرورة تلاقيها مع الشعوب وتلاحمها معها بدلاً من معاداتها للشعوب وانفصالها عنها؛ فالمؤسسات العسكرية والأمنية هي في الأساس من نسيج الشعوب فيجب ألا تشذ عنها، ويجب أن تستجيب لمطالب الشعوب بالعودة للشريعة الإسلامية ويجب أن تتجاوب هذه المؤسسات مع ضرورة الإصلاح والتغيير الملحة.
6- المؤسسات التعليمية: المنظومة التعليمية في العالم الإسلامي اليوم تقوم على تخريج موظفين حكوميين بغض النظر عن متطلبات سوق العمل والواقع المحيط، فالمنظومة التعليمية الإسلامية والعربية لا تعبر إطلاقاً عن حاجة الأمة الماسة للتقدم الصناعي والزراعي والعلمي التقني، كما أن المنظومة التعليمية في الغالب تعبر عن توجهات الأنظمة الحاكمة البعيدة عن الإسلام، لذا يجب أن يتم إصلاح المنظومات التعليمية من خلال إصلاح توجهاتها وتغيير مناهجها لتتوافق مع متطلبات السوق الملحة وتتعامل مع التأخر التقني الحالي بما يعالجه وتحاول اجتثاث المرض والضعف من جذوره في ظل السقف الديني الإصلاحي للتعليم.
خامساً: دور العلماء في صناعة جيل النصر:
العلماء هم المحرك الفاعل في الأمة وهم أداة التنفيذ الحقيقية لمعادلة الإصلاح والتغيير الصعبة والملحة، لذا فالعلماء يحملون على أكتافهم أمانة الإصلاح والتغيير على مستوى جميع المنظومات والمؤسسات المجتمعية، ويذكر لنا التاريخ كيف حمل العلماء مشاعل النور لهداية الأمة وإخراجها من الظلمات، ولنا في الإمام أحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ المجاهدين عمر المختار وغيرهم الأسوة الحسنة، وضرورة التغيير تحتاج من العلماء التجرد لله رب العالمين والصدع بكلمة الحق دون خوف من سلطان ودون خوف على قطع أرزاق، فالآجال بيد الله وهو سبحانه تكفل بأنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها، ولله الحمد الخير في الأمة لا ينقطع والعلماء بخير ومعهم أبناءهم من الدعاة أيدينا في أيديهم عسى أن نقدم شمعة تضيء الطريق لأمة حائرة.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .
حاجة الأمة الإسلامية اليوم للتغيير أضحت ملحة أيما إلحاح في ظل الموت السريري الذي تعاني منه أنظمتها الحاكمة ذات السياسات المهترءة والتوجهات الضحلة والضعف الواضح الذي جعل منها ألعوبة وسط الأمم وأضحت بسببه الدماء المسلمة أرخص الدماء.
من هنا أقدم نموذجاً من نماذج التاريخ يشابه عصرنا الحالي متبوعاً ببشارة النصر والتمكين إذا صدقت العزائم وصلحت النيات وتغيرت الهمم والأعمال...
أولاً: مشابهة الزمن الحالي لما قبل عصر صلاح الدين:
يقول مؤرخ الصليبيين مونروند واصفاً الغزو الصليبي لبيت المقدس عام 1099م: "اجتمع ديوان المشورة العسكرية الصليبي وأعطى حكماً مريعاً وهو قتل كل مسلم باق داخل المدينة. وحسب شاهد عيان صليبي فقد قتل حوالي سبعين ألفا من السكان، والتجأ البعض إلى جامع عمر (الأقصى) فلحقهم الخيالة والمشاة وأعملوا السيف فيهم حتى إن القناطر على الباب احتجزت الدماء فكانت إلى الركب وإلى لجام الخيل... بعد تلك الفظائع استعملوا مسجد قبة الصخرة كنيسة، والأقصى مسكناً لفرسان الداوية الذين كانوا يتقربون لربهم بذبح العرب والمسلمين". أ ه
لو فقط غيرنا المسميات ما تغير من الواقع إلا ما نذر، فلو استبدلنا الصليبيين باليهود لقرأنا تاريخ الأمس كأننا نقرأ تاريخ اليوم في وصف المجازر اليهودية للمسلمين بالمسجد الأقصى وما حوله من سائر الأراضي الفلسطينية، وما مجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا وغزة منا ببعيد، وكذا تدنيس اليهود لباحات المسجد الأقصى ومحاولات هدمه المحاولة تلو الأخرى.
ثانياً: مشابهة الإمارات الإسلامية المتناحرة والأنظمة العربية الحالية:
يقول ابن شداد: "سقطت القدس في أيدي الصليبيين عام 1099م بعد خمسة قرون من الحكم الإسلامي نتيجة صراعات على السلطة بين السلاجقة والفاطميين وبين السلاجقة أنفسهم. وقتل الصليبيون فور دخولهم القدس قرابة 70 ألفاً من المسلمين وانتهكوا المقدسات الإسلامية. وقامت في القدس منذ ذلك التاريخ مملكة لاتينية تحكم من قبل ملك كاثوليكي فرض الشعائر الكاثوليكية على المسيحيين الأرثوذكس مما أثار غضبهم" أ. ه
ما نراه اليوم من ضعف الأنظمة العربية، والخلافات الدائمة بين بعضها البعض واستحالة اتفاقهم على عمل يجمعهم يصب في مصلحة الأمة، بجانب علمانية معظم الأنظمة الحاكمة وبعدها عن شرع ربها ومعاداتها للعلماء والدعاة وإقصاءهم من واقع المسلمين، بل يصل الأمر في كثير من الأحيان للسجن والتعذيب لمن نطق منهم بالحق ولم يخف في الله لومة لائم، ووصل بالفعل الأمر لقتل بعض العلماء والدعاة كما حدث للداعية الإسلامي الأشهر سيد قطب صاحب الظلال رحمه الله رحمة واسعة وغيره كثير على مستوى العالم الإسلامي.
ثالثاً: بداية النبتة الطيبة وجيل النصر:
يصف ابن خلكان نشأة صلاح الدين وكأنه يصف للأمة اليوم الدواء، عندما يصف نشأة صلاح بأنه تربى على الخير وطرائق المعروف كما تربى على حب الجهاد والاجتهاد فيه...
يقول بن خلكان عن صلاح الدين ومولده:
"أخبرني بعض أهل بيتهم وقد سألته: "هل تعرف متى خرجوا من تكريت؟"، فقال: "سمعت جماعة من أهلنا يقولون إنهم أخرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين، فتشاءموا به وتطيروا منه، فقال بعضهم لعل فيه الخيرة وما تعلمون فكان كما قال والله أعلم".
ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع، ولما ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين، وكانت مخايل السعادة عليه لائحة والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويؤثره، ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد.
وكانت هذه النبتة الصالحة في الأرض الطيبة هي القائد الذي قاد الأمة لتحرير القدس:
قال ابن شداد: "لمّا تسلم صلاح الدين عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك، واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل فسار نحوه معتمدا على الله تعالى، مفوضا أمره إليه، منتهزا الفرصة في فتح باب الخير الذي حث على انتهازه بقوله من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه.
وكان نزوله عليه في يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة 583ه، وكان نزوله بالجانب الغربي، وكان معه من كان مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، وحزر أهل الخبرة ممن كان معه من كان فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفا خارجا عن النساء والصبيان، ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ،ونصب المناجيق وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم.
ولما رأى أعداء الله الصليبيون ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم، وظهرت لهم إمارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم، وكان قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر، وعلى حصونهم من التخريب والهدم، وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان، واستقرت الأمور بالمراسلة من الطائفتين، وكان تسلمه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم، فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم، وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى إن شاء الله.
وكان فتحه عظيما شهده من أهل العلم خلق كثير، وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسره الله تعالى على يده من فتوح الساحل وقصده القدس قصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلف أحد منهم، وارتفعت الأصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه، وخطب القاضي محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن الزكي".
وقد كتب عماد الدين الأصبهاني رسالة في فتح القدس،وجمع كتابا سماه الفتح القسي في الفتح القدسي وهو في مجلدين ذكر فيه جميع ما جرى في هذه الواقعة.
وكان قد حضر الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النابلسي الشاعر المشهور هذا الفتح فأنشد السلطان صلاح الدين قصيدته التي أولها:
هذا الذي كانت الآمال تنتظر***فليوف لله أقوام بما نذروا
وهي طويلة تزيد على مائة بيت يمدحه ويهنيه بالفتح.
يقول بهاء الدين بن شداد في (السيرة الصلاحية): "نكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة، وكان شكلا عظيما، ونصر الله الإسلام على يده نصرا عزيزا، وكان الإفرنج قد استولوا على القدس سنة 492ه ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين، وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين دينارا، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارا واحدا، فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيرا، وأفرج عمن كان بالقدس من أسرى المسلمين وكانوا خلقا عظيما، وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه، وتقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه وهي مدينة صور، ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جبي له شيء، وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألفا، وكان رحيله عنه يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان من سنة 583ه".
رابعاً: أين جيل صلاح؟، أين جيل النصر؟
لا شك أن وسط الليل البهيم الذي تعيشه الأمة أشعة من ضياء تبشر بقرب الفجر، ولكن يجب على كل الأمة احتضان هذه الآشعة النورانية، ويجب على الجميع رعاية النبتات الطيبة ليخرج للأمة صلاح الدين جديد، ولكن من أين تتأتى تلك البشائر وكيف؟؟
1- مراكز القرآن و(الكتاتيب): وهي اليوم ولله الحمد منتشرة في كافة بقاع الديار الإسلامية ولكن تحتاج للمناخ المناسب والتربة الصالحة، فعلى الشعوب المحافظة على مراكز القرآن، وعلى الأنظمة التي خنقت الدعوة والدعاة وحاربتهم أن تفسح الطريق لمشاعل النور لتضيء الطريق للأمة الحائرة لتخرج من تيه الظلام والعلمانية وتستضيء بنور الحق وتستعيد عافيتها؛ فأمة بلا كتاب أمة ضائعة، بل والله الغرب الكافر يضع الأيدلوجيات والفلسفات التي تناسب توجهاته ويبني عليها أجياله، فما بالنا بأمة بين يديها خير كتاب، وأصفى منهج وأصدق عقيدة، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو تنزيل العزيز الحكيم الذي لا يأمر بشيء إلا لحكمة بالغة فيها كمال المصلحة للخلق، ولا ينهى عن شيء إلا وفي نهيه تمام المصلحة للخلق لدفع المضار والمهالك، لذا فجيل النصر هو الجيل الذي لابد أن يتربى على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- ومن هنا فعلى مراكز القرآن والكتاتيب أن تتزود بالدعاة والعلماء والمربين الذين يربون أبناء المسلمين على تطبيق القرآن تطبيقاً عملياً من خلال تدريس السنة النبوية وتربية الأطفال عليها، سواء بتصحيح العقائد والأخلاق والعبادات، لذا ينبغي ألا تكتفي هذه المراكز والكتاتيب بمجرد التلقين للقرآن وأحكام التجويد، بل لابد أن يتربى أبناء الإسلام على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة وسبيله القويم الذي لا يتم العمل بالقرآن إلا من خلاله؛ فالسنة شارحة وموضحة للقرآن ومبينة بياناً عملياً لصراط الله المستقيم.
3- دور الأسرة في رعاية البراعم الإيمانية دور عظيم؛ فالأسرة هي التربة التي تترعرع فيها النبتات فلو صلحت لصلحت النبتة ولو فسدت لصارت الشجرة خبيثة عياذاً بالله , لذا فعلى المجتمع أن يتكاتف لإخراج جيل النصر الذي لن يخرج إلا بجهود وتكاتف الجميع والعودة الصادقة لدين الله والنية الصالحة لضرورة الإصلاح والتغيير والهمة العالية للخروج بالأمة من كبوتها.
4- دور مؤسسات المجتمع للنهوض بالبراعم الإيمانية: هذا الدور في ظل الواقع الحالي المظلم يعني ضرورة تحمل كل مسلم لمسئولية إصلاح المجتمع وتغيير الظلام المحيط فكل مسلم على ثغر، سواء صغر أو كبر هذا الثغر فعلى المسلم ألا يستصغر نفسه أو يقلل من شأن عمله فكلنا راع وكلنا مسئول أمام الله عما استرعاه، ولو صلح الأفراد لصلحت مؤسسات المجتمع لا محالة، فقط المطلوب من كل منا أن يصدق ويبدأ في التغيير بإصلاح النفس ودعوة الغير وإنكار المنكر بما يستطيع.
5- دور المؤسسات العسكرية والأمنية: يجب أن تتحول هذه المؤسسات من محاربة الشريعة والدعاة إلى خدمة الشريعة والمطالبة بها، وهذا التحول لكي يحدث لابد أن تتضافر الجهود ولابد من بيان خطأ الاستراتيجيات الحالية التي تعمل من خلالها تلك المؤسسات، ولابد من مخاطبة العلماء والدعاة لرؤوس المؤسسات العسكرية والأمنية وقادتها بضرورة الإصلاح، وبيان عوار العمل الحالي لهذه المؤسسات وضرورة تلاقيها مع الشعوب وتلاحمها معها بدلاً من معاداتها للشعوب وانفصالها عنها؛ فالمؤسسات العسكرية والأمنية هي في الأساس من نسيج الشعوب فيجب ألا تشذ عنها، ويجب أن تستجيب لمطالب الشعوب بالعودة للشريعة الإسلامية ويجب أن تتجاوب هذه المؤسسات مع ضرورة الإصلاح والتغيير الملحة.
6- المؤسسات التعليمية: المنظومة التعليمية في العالم الإسلامي اليوم تقوم على تخريج موظفين حكوميين بغض النظر عن متطلبات سوق العمل والواقع المحيط، فالمنظومة التعليمية الإسلامية والعربية لا تعبر إطلاقاً عن حاجة الأمة الماسة للتقدم الصناعي والزراعي والعلمي التقني، كما أن المنظومة التعليمية في الغالب تعبر عن توجهات الأنظمة الحاكمة البعيدة عن الإسلام، لذا يجب أن يتم إصلاح المنظومات التعليمية من خلال إصلاح توجهاتها وتغيير مناهجها لتتوافق مع متطلبات السوق الملحة وتتعامل مع التأخر التقني الحالي بما يعالجه وتحاول اجتثاث المرض والضعف من جذوره في ظل السقف الديني الإصلاحي للتعليم.
خامساً: دور العلماء في صناعة جيل النصر:
العلماء هم المحرك الفاعل في الأمة وهم أداة التنفيذ الحقيقية لمعادلة الإصلاح والتغيير الصعبة والملحة، لذا فالعلماء يحملون على أكتافهم أمانة الإصلاح والتغيير على مستوى جميع المنظومات والمؤسسات المجتمعية، ويذكر لنا التاريخ كيف حمل العلماء مشاعل النور لهداية الأمة وإخراجها من الظلمات، ولنا في الإمام أحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ المجاهدين عمر المختار وغيرهم الأسوة الحسنة، وضرورة التغيير تحتاج من العلماء التجرد لله رب العالمين والصدع بكلمة الحق دون خوف من سلطان ودون خوف على قطع أرزاق، فالآجال بيد الله وهو سبحانه تكفل بأنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها، ولله الحمد الخير في الأمة لا ينقطع والعلماء بخير ومعهم أبناءهم من الدعاة أيدينا في أيديهم عسى أن نقدم شمعة تضيء الطريق لأمة حائرة.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .