في زمن انكسار الحب، زمن هزيمة الإنسانية، زمن تكسُّر أمواج الأحلام على شواطئ بحار واقعنا المرير، يتسلل حلم فتاة لا تدرك أبدًا معنى حدود الواقع، لا تدرك معنى قهر الإنسان ولا ظلم الحياة لأحلامنا الصغيرة البريئة.
في ذاكرتها تتجلَّى صورٌ غريبة، صورٌ تُعتبَر، في حالة مثل حالتها، جنونًا في جنون! كانت تحلم حلمًا جنونيًّا خطيرًا تحاول من خلاله كسر جدار الواقع، جدار حياة البؤس والظلم وانعدام الإنسانية. فقد وجدت نفسها مرميةً في دار للرعاية الاجتماعية، ولم تدرك يومًا لماذا هي في هذا المكان، منبوذة من المجتمع، لا لشيء إلا لأنها "معوقة عقليًّا"!
مع ذلك، لم تمنع نفسها وكيانها من الحلم ومن السعي لتحقيق حلمها. لقد كانت تحلم أن تصبح ممثلة...
رسم طبق الأصل عن صورة لبطلة القصة
كانت تجلس خلف القضبان، تنظر إلى الكون من خلف باب السجن الذي يفصلها عن تحقيق حلمها الخرافي. كانت تتأمل الشارع والمركبات العابرة، تحاول الاستنجاد بأحدهم لينقذها من هذا الظلام. كانت تناجي... فسمعنا صوتها الصارخ في أعماقنا. واستيقظت من سباتها العميق لحظة سماعها أغلال الباب تُفتَح لنا.
دخلت "فرقة صوفيا للفنون المسرحية" عالم الجمعية لتنقذ نزلاءها من ظلم المجتمع ومن ظلم سجانها. كانوا في حالة بؤس وألم مرير، وأحلامهم المسكينة تتخبط بين جدران واقعهم المؤلم داخل الجمعية وبين المستقبل المجهول خارجها. ينظرون للمستقبل من ثقب أسود، الطرق فيه مظلمة ومسدودة، وأجنحتهم متكسرة وسط عباب بحر الدنيا الهائج...
إلى أن دخلنا حياتهم لنملأها فرحًا وأملاً. حاولنا إشراكهم في أعمالنا الفنية لنزرع ثقتهم في أنفسهم وفي المجتمع من جديد. وبدأت رحلتنا معهم وسط جوٍّ مفعم بالفرح والأمل والسرور.
وإذا بها ترمقنا من بعيد وهي تفكر في عمق، ثم تقترب منَّا بخطى ثابتة، متزنة، وكأنها ترسمها منذ ألف سنة، وكأنها تنتظرنا منذ آلاف السنين! اقتربت وصرخت:
- أنا أريد أن أمثل... أنا أريد أن أغني... أريد أن ألعب!
كانت تنظر إلينا وكأننا ملائكة الرحمة، قادمين من أجلها فقط، لنخلق لها السعادة ولنحقق لها حلمها في اللعب معنا لعبة التمثيل.
ووقعنا في حيرة من أمرنا! ماذا نفعل بعد أن تعلَّقت هذه المسكينة بنا، بعد أن نسجت أحلامها الوردية حولنا؟! أيُعقل أن ندمِّر حلمها الوليد وهي مازالت تداعبه بخيالها وأفكارها؟! لم نجرؤ أن نقول لها: لا تستطيعين الاشتراك معنا بسبب حالتك، لأنك لا تقوين على حفظ الأدوار، ولا على الوقوف على المسرح ساعات طويلة، لأنها كانت تنظر إلى الحياة من خلالنا، ولأننا أصبحنا أملها في الحياة، صوتها الصارخ، الساكن في حناجرنا.
أرادت انتزاع شخصيتها المريضة، ودفن ذكرياتها الأليمة، لتولد من جديد إنسانًا يحلم، كما يحلم الأسوياء، بأن تصبح ممثلة وتنسى أنها معوقة. أرادت العيش داخل شخصية جديدة. فقد سئمت العيش خلف ستار شخصية مريضة مهمَلة، مسجونة بين جدران المرض والألم والقهر. سئمت العيش في الظلام، ظلام الروح والنفس، ظلام المجتمع. أرادت الخروج إلى النور، إلى ضوء الشمس، لتحطِّم الأغلال وتكسر الأسوار وتخرج من الباب الكبير، لتدخل عالم الفن.
حاولنا مساعدتها بهدف مداعبة ذاك الحلم البريء، فدخلنا معها مغامرة مدهشة، أدت إلى اكتشاف تجربة عظيمة في عالم المسرح.
لقد طبَّقنا عمليًّا علاجًا نفسيًّا اجتماعيًّا على المعوقين، فأدى ذلك إلى تحسُّن حالتهم النفسية والسلوكية وتقليل عدد نوباتهم الهستيرية. حاولنا معهم تعزيز ثقتهم في أنفسهم وفي المجتمع وغرس روح التعاون والألفة والمحبة فيما بينهم. فساعدتْهم التجربة أن ينظروا إلى أنفسهم نظرة رضا، على أنهم أصحاء، أسوياء، لديهم كنوز، طاقات مدفونة تتفجَّر على خشبة المسرح. تغيرت نظرة الناس والمشاهدين إليهم أيضًا، فأحسوا أنهم على المسرح نجوم حقيقيون، وليسوا مجرد معوقين منبوذين.
لقد اخترقنا في لعبتنا هذه حدود سطح وعيها لإخراجها من سجنها المؤلم الذي تسجن نفسها ووعيها فيه. وما إن دخلت الآمال والأفكار السعيدة حتى بدأ وعيها بالاستجابة والتفتح.
كانت الذاكرة مليئة بالصور الدموية والذكريات التعسة التي أصدرت لوعيها أمرًا بالسجن المؤبد في ذلك اليوم، في تلك اللحظة المؤلمة. فكأنها تتحمل عواقب لغز كبير يصعب على العقل البشري تفسيره، لغز الكينونة والكارما الأبدي.
كان رمز الحياة، رمز الطفولة، رمز الحنان والأمومة، قد دُمِّر في ذلك المشهد المندثر، مشهد أشلاء جسم أمِّها المتناثرة في كلِّ مكان، وهي ما انفكت تصرخ لتوقظها:
- أمي!... أفيقي، أفيقي!... لا تنامي على جانب الطريق!...
ومازالت إلى الآن تحاول إيقاظ المشهد من ذاكرتها المسجونة، مازالت في حالة تماهٍ مع أمِّها الميتة، الراقدة في سبات عميق، محاولةً الاستنجاد بعطفها، الاستنجاد بحنانها... حتى كبر جسمُها، ومازال عقلها الباطن في سن السادسة، يحاول أن يعيش طفولته المدمَّرة، المحترقة في نار الذكريات المؤلمة.
حاولنا محاورة عقلها الباطن، فتجاوبت معنا بإلهامٍ إلهيٍّ مذهل. كنَّا كلما نطلب منها إعادة ما تقول كانت الفكرة تضيع في زحمة تبعثُر أفكارها.
لكنها حاولت، بإصرارها وعنادها، تحطيم أغلال أسرها، ونجحت أخيرًا في الفوز بدور بسيط جعلها فيما بعد أعجوبة في عالم المسرح. لقد جسدت دور "السيدة قرار"! لكن، مَن هي "السيدة قرار"؟
إنها إعلامية تواجه العولمة عبر مختلف أنواع البرامج الهابطة. إنها تجسد صورة الدمية المتحركة، الراقصة في حلبة القرارات الرسمية. لقد جسدت دور القياديين المتخلِّفين في مواجهة العولمة.
استجابت "السيدة قرار" لهذا العلاج النفسي، فتقلَّص لديها عددُ النوبات الهستيرية، وأصبح تعامُلها مع الآخرين أكثر سلاسة وثقة بالنفس. وقد تلقت منَّا وعدًا بأننا سنرسلها إلى البلدة المجاورة للتمثيل على إحدى مسارحها.
فرحت "السيدة قرار" بهذا الوعد، ظنًّا منها أنها ستزور آخر العالم وستلتقي مع نجوم هوليوود! لقد أحست أن الحياة أصبحت ممتعة، أن الدنيا جميلة، وأن الحلم سيصبح واقعًا. لقد أصبحت، لأول مرة في حياتها، تشعر أنها إنسان تام، لأنها حلمت أن تتنفس الحياة، وبالمسرح تنفَّست. لقد دخلت حياة البشر، لأول مرة، من بابه العريض، كنجمة مسرحية، ممثلة، مطربة...
نعم، لأول مرة في حياتها التعسة تتنفس الحياة عبر المسرح. فأصبح أجمل يوم في حياتها يومًا تطل فيه من على خشبة المسرح، وهي تحلم بإطلالتها الجديدة مع تصفيق الجمهور وإعجابه بإبداعها وجمال أدائها. وإليكم ما حدث.
قالوا لها:
- أنت ممثلة بارعة، فقد نجحت بالفوز بإعجاب كل الجمهور وتصفيقه. لقد أصبحت محبوبة من الجميع... لذلك سنرسلك عما قريب إلى البلدة المجاورة لتمثِّلي على خشبة مسرحها... لكن... بعد الحصول على الموافقة الرسمية.
راحت "السيدة قرار" تنتظر قرار بدء العروض المسرحية، لكن نظرًا لـ"ظروف دولية" تأخرت تلك الموافقة! لكن "السيدة قرار" لم تيأس، وعادت للانتظار على باب الجمعية، لعلَّ القرار يأتي بالموافقة المطلوبة.
انتظرت وهي تحلم مع بزوغ كلِّ فجر، ومع غروب كلِّ شمس. ولَّى الصيف وجاء الشتاء، ببرده وبكائه وصراخه، وهاهي ذي "السيدة قرار" ما تزال مسمَّرة في مكانها خلف قضبان سجنها، تلتحف البرد والثلج، منتظرةً تلك الورقة الـ... التي ستساعدها على إعادة تنفس الحياة من جديد خارج حدود سجن الجمعية المظلم وأسواره.
لكن صبرها بدأ ينفد... تغيب الأيام عنها، تسافر السنون وهي خلف القضبان، في زمهرير البرد والجوع، تنتظر ذلك القرار، تنتظر قرار بدء حياتها. لكن تلك الورقة لم تأتِ!
إذ ذاك وقفت، ونفضت عن كتفيها الثلج، وبدأت تمشي كالرجل المتجمِّد، وشعرها الإبري على كتفيها المنهكين، وشفتاها زرقاوان، وراحت تعدو وتعدو بخطواتها البطيئة، لتدخل غرفة الإدارة وتسأل بصوتها العاصف وكبريائها المدوية:
- أين هي؟!... أين هي تلك الورقة الـ... التي تمنعني من الحياة؟!... أين تلك الورقة التي تفصلني عن الواقع والحقيقة، عن الحلم المنسوج في خيالي؟!... أريد أن أعيش... أريد أن أتنفس... ثم ما معنى تلك الورقة؟!... لِمَ أشعر أنها تخنقني، تمتص دمي، وكأنها وحش كاسر يحاول اغتيالي؟!
وتصرخ بصوتها العاصف المرتجف:
- أيتها الورقة الـ...، أين أنتِ؟!
كانت ترتجف بردًا، جوعًا، غضبًا...
انفجروا فيها غاضبين بعد أن نفد صبرهم، وقالوا:
- إلى متى ستسألين عن تلك الورقة؟! لا تنتظري... كفاك حلمًا! لا توجد لدينا ورقة، وليس لدينا كشك الأحلام لكي نبيعكِ هذا الحلم الخرافي. أنت لست سوى مجنونة! أيُعقل أن نرسل مجنونة إلى المدينة؟!
ما إن سمعت ذلك حتى انكسر ماء الوجه، واهتزت الجبال في صدرها، وثارت البراكين في نفسها، وتساءلت:
- إذًا لِمَ أنتظر تلك الورقة هذه الأيام والسنين كلها؟ لِمَ أتحمل الجوع والبرد والمطر وزمهرير الثلج، وأنا على الباب مسمَّرة أنتظر بريدهم، لعلَّهم يحملون لي ورقة الأحلام، لعلَّهم يرأفون بحالي ويرسلون لي جرعة حياة؟! مَن الذي يمنعني؟ مَن الذي يريد قتلي ووأدي في هذه الدار؟! أريد أن أعيش كإنسان! من حقِّي أن أخرج من عالم الجنون والمرض لأكون إنسانًا ينعم بحقِّ الحياة والشفاء. أنا لا أفهم قانونكم، يا أيها العقلاء! نحن المجانين نطالب بحقوقنا كأناس، كبشر، وأنتم نيام... نيام!... أين تلك الورقة الـ...؟! ثم ما تعني هذه الورقة؟ هل تعني إما الحياة وإما الموت؟! لمجنونة، مثلي، تعني الحياة كإنسان صحيح أو الموت في المرض والوهم والحزن.
هنا لم يعد أمام "السيدة قرار" إلا الانفجار والبكاء بعنف والصراخ والشتائم. راحت تصرخ وتضرب وتطالب بلعبتها الحميمة. انفجرت القنبلة انفجارًا عنيفًا، حتى نامت الثائرة على إثر إبرة منومة.
يا لها من مسكينة!
كانت ستموت لأجل حلمها البريء الذي تكسَّر.
كانت ستضحِّي بحياتها لأجل تلك الورقة، عربون شفائها.
قولوا لي، بربكم، أليس هذا هو الاستشهاد بعينه؟!
في ذاكرتها تتجلَّى صورٌ غريبة، صورٌ تُعتبَر، في حالة مثل حالتها، جنونًا في جنون! كانت تحلم حلمًا جنونيًّا خطيرًا تحاول من خلاله كسر جدار الواقع، جدار حياة البؤس والظلم وانعدام الإنسانية. فقد وجدت نفسها مرميةً في دار للرعاية الاجتماعية، ولم تدرك يومًا لماذا هي في هذا المكان، منبوذة من المجتمع، لا لشيء إلا لأنها "معوقة عقليًّا"!
مع ذلك، لم تمنع نفسها وكيانها من الحلم ومن السعي لتحقيق حلمها. لقد كانت تحلم أن تصبح ممثلة...
رسم طبق الأصل عن صورة لبطلة القصة
كانت تجلس خلف القضبان، تنظر إلى الكون من خلف باب السجن الذي يفصلها عن تحقيق حلمها الخرافي. كانت تتأمل الشارع والمركبات العابرة، تحاول الاستنجاد بأحدهم لينقذها من هذا الظلام. كانت تناجي... فسمعنا صوتها الصارخ في أعماقنا. واستيقظت من سباتها العميق لحظة سماعها أغلال الباب تُفتَح لنا.
دخلت "فرقة صوفيا للفنون المسرحية" عالم الجمعية لتنقذ نزلاءها من ظلم المجتمع ومن ظلم سجانها. كانوا في حالة بؤس وألم مرير، وأحلامهم المسكينة تتخبط بين جدران واقعهم المؤلم داخل الجمعية وبين المستقبل المجهول خارجها. ينظرون للمستقبل من ثقب أسود، الطرق فيه مظلمة ومسدودة، وأجنحتهم متكسرة وسط عباب بحر الدنيا الهائج...
إلى أن دخلنا حياتهم لنملأها فرحًا وأملاً. حاولنا إشراكهم في أعمالنا الفنية لنزرع ثقتهم في أنفسهم وفي المجتمع من جديد. وبدأت رحلتنا معهم وسط جوٍّ مفعم بالفرح والأمل والسرور.
وإذا بها ترمقنا من بعيد وهي تفكر في عمق، ثم تقترب منَّا بخطى ثابتة، متزنة، وكأنها ترسمها منذ ألف سنة، وكأنها تنتظرنا منذ آلاف السنين! اقتربت وصرخت:
- أنا أريد أن أمثل... أنا أريد أن أغني... أريد أن ألعب!
كانت تنظر إلينا وكأننا ملائكة الرحمة، قادمين من أجلها فقط، لنخلق لها السعادة ولنحقق لها حلمها في اللعب معنا لعبة التمثيل.
ووقعنا في حيرة من أمرنا! ماذا نفعل بعد أن تعلَّقت هذه المسكينة بنا، بعد أن نسجت أحلامها الوردية حولنا؟! أيُعقل أن ندمِّر حلمها الوليد وهي مازالت تداعبه بخيالها وأفكارها؟! لم نجرؤ أن نقول لها: لا تستطيعين الاشتراك معنا بسبب حالتك، لأنك لا تقوين على حفظ الأدوار، ولا على الوقوف على المسرح ساعات طويلة، لأنها كانت تنظر إلى الحياة من خلالنا، ولأننا أصبحنا أملها في الحياة، صوتها الصارخ، الساكن في حناجرنا.
أرادت انتزاع شخصيتها المريضة، ودفن ذكرياتها الأليمة، لتولد من جديد إنسانًا يحلم، كما يحلم الأسوياء، بأن تصبح ممثلة وتنسى أنها معوقة. أرادت العيش داخل شخصية جديدة. فقد سئمت العيش خلف ستار شخصية مريضة مهمَلة، مسجونة بين جدران المرض والألم والقهر. سئمت العيش في الظلام، ظلام الروح والنفس، ظلام المجتمع. أرادت الخروج إلى النور، إلى ضوء الشمس، لتحطِّم الأغلال وتكسر الأسوار وتخرج من الباب الكبير، لتدخل عالم الفن.
حاولنا مساعدتها بهدف مداعبة ذاك الحلم البريء، فدخلنا معها مغامرة مدهشة، أدت إلى اكتشاف تجربة عظيمة في عالم المسرح.
لقد طبَّقنا عمليًّا علاجًا نفسيًّا اجتماعيًّا على المعوقين، فأدى ذلك إلى تحسُّن حالتهم النفسية والسلوكية وتقليل عدد نوباتهم الهستيرية. حاولنا معهم تعزيز ثقتهم في أنفسهم وفي المجتمع وغرس روح التعاون والألفة والمحبة فيما بينهم. فساعدتْهم التجربة أن ينظروا إلى أنفسهم نظرة رضا، على أنهم أصحاء، أسوياء، لديهم كنوز، طاقات مدفونة تتفجَّر على خشبة المسرح. تغيرت نظرة الناس والمشاهدين إليهم أيضًا، فأحسوا أنهم على المسرح نجوم حقيقيون، وليسوا مجرد معوقين منبوذين.
لقد اخترقنا في لعبتنا هذه حدود سطح وعيها لإخراجها من سجنها المؤلم الذي تسجن نفسها ووعيها فيه. وما إن دخلت الآمال والأفكار السعيدة حتى بدأ وعيها بالاستجابة والتفتح.
كانت الذاكرة مليئة بالصور الدموية والذكريات التعسة التي أصدرت لوعيها أمرًا بالسجن المؤبد في ذلك اليوم، في تلك اللحظة المؤلمة. فكأنها تتحمل عواقب لغز كبير يصعب على العقل البشري تفسيره، لغز الكينونة والكارما الأبدي.
كان رمز الحياة، رمز الطفولة، رمز الحنان والأمومة، قد دُمِّر في ذلك المشهد المندثر، مشهد أشلاء جسم أمِّها المتناثرة في كلِّ مكان، وهي ما انفكت تصرخ لتوقظها:
- أمي!... أفيقي، أفيقي!... لا تنامي على جانب الطريق!...
ومازالت إلى الآن تحاول إيقاظ المشهد من ذاكرتها المسجونة، مازالت في حالة تماهٍ مع أمِّها الميتة، الراقدة في سبات عميق، محاولةً الاستنجاد بعطفها، الاستنجاد بحنانها... حتى كبر جسمُها، ومازال عقلها الباطن في سن السادسة، يحاول أن يعيش طفولته المدمَّرة، المحترقة في نار الذكريات المؤلمة.
حاولنا محاورة عقلها الباطن، فتجاوبت معنا بإلهامٍ إلهيٍّ مذهل. كنَّا كلما نطلب منها إعادة ما تقول كانت الفكرة تضيع في زحمة تبعثُر أفكارها.
لكنها حاولت، بإصرارها وعنادها، تحطيم أغلال أسرها، ونجحت أخيرًا في الفوز بدور بسيط جعلها فيما بعد أعجوبة في عالم المسرح. لقد جسدت دور "السيدة قرار"! لكن، مَن هي "السيدة قرار"؟
إنها إعلامية تواجه العولمة عبر مختلف أنواع البرامج الهابطة. إنها تجسد صورة الدمية المتحركة، الراقصة في حلبة القرارات الرسمية. لقد جسدت دور القياديين المتخلِّفين في مواجهة العولمة.
استجابت "السيدة قرار" لهذا العلاج النفسي، فتقلَّص لديها عددُ النوبات الهستيرية، وأصبح تعامُلها مع الآخرين أكثر سلاسة وثقة بالنفس. وقد تلقت منَّا وعدًا بأننا سنرسلها إلى البلدة المجاورة للتمثيل على إحدى مسارحها.
فرحت "السيدة قرار" بهذا الوعد، ظنًّا منها أنها ستزور آخر العالم وستلتقي مع نجوم هوليوود! لقد أحست أن الحياة أصبحت ممتعة، أن الدنيا جميلة، وأن الحلم سيصبح واقعًا. لقد أصبحت، لأول مرة في حياتها، تشعر أنها إنسان تام، لأنها حلمت أن تتنفس الحياة، وبالمسرح تنفَّست. لقد دخلت حياة البشر، لأول مرة، من بابه العريض، كنجمة مسرحية، ممثلة، مطربة...
نعم، لأول مرة في حياتها التعسة تتنفس الحياة عبر المسرح. فأصبح أجمل يوم في حياتها يومًا تطل فيه من على خشبة المسرح، وهي تحلم بإطلالتها الجديدة مع تصفيق الجمهور وإعجابه بإبداعها وجمال أدائها. وإليكم ما حدث.
قالوا لها:
- أنت ممثلة بارعة، فقد نجحت بالفوز بإعجاب كل الجمهور وتصفيقه. لقد أصبحت محبوبة من الجميع... لذلك سنرسلك عما قريب إلى البلدة المجاورة لتمثِّلي على خشبة مسرحها... لكن... بعد الحصول على الموافقة الرسمية.
راحت "السيدة قرار" تنتظر قرار بدء العروض المسرحية، لكن نظرًا لـ"ظروف دولية" تأخرت تلك الموافقة! لكن "السيدة قرار" لم تيأس، وعادت للانتظار على باب الجمعية، لعلَّ القرار يأتي بالموافقة المطلوبة.
انتظرت وهي تحلم مع بزوغ كلِّ فجر، ومع غروب كلِّ شمس. ولَّى الصيف وجاء الشتاء، ببرده وبكائه وصراخه، وهاهي ذي "السيدة قرار" ما تزال مسمَّرة في مكانها خلف قضبان سجنها، تلتحف البرد والثلج، منتظرةً تلك الورقة الـ... التي ستساعدها على إعادة تنفس الحياة من جديد خارج حدود سجن الجمعية المظلم وأسواره.
لكن صبرها بدأ ينفد... تغيب الأيام عنها، تسافر السنون وهي خلف القضبان، في زمهرير البرد والجوع، تنتظر ذلك القرار، تنتظر قرار بدء حياتها. لكن تلك الورقة لم تأتِ!
إذ ذاك وقفت، ونفضت عن كتفيها الثلج، وبدأت تمشي كالرجل المتجمِّد، وشعرها الإبري على كتفيها المنهكين، وشفتاها زرقاوان، وراحت تعدو وتعدو بخطواتها البطيئة، لتدخل غرفة الإدارة وتسأل بصوتها العاصف وكبريائها المدوية:
- أين هي؟!... أين هي تلك الورقة الـ... التي تمنعني من الحياة؟!... أين تلك الورقة التي تفصلني عن الواقع والحقيقة، عن الحلم المنسوج في خيالي؟!... أريد أن أعيش... أريد أن أتنفس... ثم ما معنى تلك الورقة؟!... لِمَ أشعر أنها تخنقني، تمتص دمي، وكأنها وحش كاسر يحاول اغتيالي؟!
وتصرخ بصوتها العاصف المرتجف:
- أيتها الورقة الـ...، أين أنتِ؟!
كانت ترتجف بردًا، جوعًا، غضبًا...
انفجروا فيها غاضبين بعد أن نفد صبرهم، وقالوا:
- إلى متى ستسألين عن تلك الورقة؟! لا تنتظري... كفاك حلمًا! لا توجد لدينا ورقة، وليس لدينا كشك الأحلام لكي نبيعكِ هذا الحلم الخرافي. أنت لست سوى مجنونة! أيُعقل أن نرسل مجنونة إلى المدينة؟!
ما إن سمعت ذلك حتى انكسر ماء الوجه، واهتزت الجبال في صدرها، وثارت البراكين في نفسها، وتساءلت:
- إذًا لِمَ أنتظر تلك الورقة هذه الأيام والسنين كلها؟ لِمَ أتحمل الجوع والبرد والمطر وزمهرير الثلج، وأنا على الباب مسمَّرة أنتظر بريدهم، لعلَّهم يحملون لي ورقة الأحلام، لعلَّهم يرأفون بحالي ويرسلون لي جرعة حياة؟! مَن الذي يمنعني؟ مَن الذي يريد قتلي ووأدي في هذه الدار؟! أريد أن أعيش كإنسان! من حقِّي أن أخرج من عالم الجنون والمرض لأكون إنسانًا ينعم بحقِّ الحياة والشفاء. أنا لا أفهم قانونكم، يا أيها العقلاء! نحن المجانين نطالب بحقوقنا كأناس، كبشر، وأنتم نيام... نيام!... أين تلك الورقة الـ...؟! ثم ما تعني هذه الورقة؟ هل تعني إما الحياة وإما الموت؟! لمجنونة، مثلي، تعني الحياة كإنسان صحيح أو الموت في المرض والوهم والحزن.
هنا لم يعد أمام "السيدة قرار" إلا الانفجار والبكاء بعنف والصراخ والشتائم. راحت تصرخ وتضرب وتطالب بلعبتها الحميمة. انفجرت القنبلة انفجارًا عنيفًا، حتى نامت الثائرة على إثر إبرة منومة.
يا لها من مسكينة!
كانت ستموت لأجل حلمها البريء الذي تكسَّر.
كانت ستضحِّي بحياتها لأجل تلك الورقة، عربون شفائها.
قولوا لي، بربكم، أليس هذا هو الاستشهاد بعينه؟!