عشت جحيم الإدمان ثم الدعارة منذ سن الثانية عشرة
خلال الخمس سنوات المنقضية، عاشت هدى تجارب قد لا تخطر على بال، بدأت
بالهروب من البيت، التدخين، استهلاك المخدرات بجميع أنواعها من الحشيش إلى
الكوكايين، ومن الشم إلى الحقن بالإبر. ولأن الأمر يتعلق بفتاة، كان من
الضروري أن تمر تجربة الانحراف بأقدم مهن التاريخ، فقد تعاطت هدى وعمرها
لا يتجاوز السادسة عشر بيع جسدها لقاء الحصول على مورد رزق يكفيها لاقتناء
حاجياتها وأداء أجرة الكراء، قبل أن تعلن بإرادة قوية جدا خلاصها من جل
أصناف الإدمان والدعارة.
علامات كي دائرية، بحجم قطر السيجارة علت ظهر كفها، وآثار
ضربات بأدوات حادة خطت ذراعها، تارة كانت بواسطة شفرات حلاقة وتارة أخرى
بواسطة سكاكين ... وهي في النهاية ليست، في حالة هدى، صنيع لحظات الانتشاء
بالمخدر، وإنما نتيجة لـ«حرقة لو مانك» كما تعبر عن ذلك هدى في إشارة إلى
لحظات التوق إلى السيجارة، التي يحلو للمدمنين أن يسموها المونك أو المانك
( le manque ). بدأت مسيرة الانحراف بخطوة، نثرة سيجارة، فبعض «الزْعامة»
هي التي قادت هدى في النهاية نحو استهلاك الحشيش رفقة بعض زملاء الدراسة
وعمرها لا يتجاوز الثانية عشرة من العمر ...
نشأت هدى بمدينة المحمدية، من أب تدرج في أعمال بسيطة على صلة بعالم البحر
قبل أن ينتهي راهنا في حالة عطالة، أما الأم فاحترفت منذ زمن تنظيف
البيوت. قطنت الصبية ذات الثمانية عشر ربيعا بمعية والديها وإخوتها قبل أن
تدخل مرحلة التمرد على وضع عائلي يتسم بالتمزق الشديد... هي أكبر إخوتها،
يليها صبي في الحادية عشرة وفتاة لم تتجاوز عامها الخامس، «كبرت بحال إلى
معقدة، كنت دايما منعزلة على الناس» تحكي هدى عن أهم سمات الطفولة فيها،
وهي الخصائص التي جعلت منها صبية شبه منعزلة عن الآخرين، وزاد الجو
الأسري، المشحون بالمشاكل والقيم السلبية، الذي نشأت وسطه تأثيرا على
مزاجها غير المستقر، حتى أنها تعزو اليوم جزءا من دواعي انحرافها لأسرتها
ولمعاملة والديها معها ولبعضهم البعض وللأسرة عامة.
«لم أكن أتحمل وطأة المشاكل بين والداي اللذين كانا دائمي الشجار فيما
بينهما» تؤكد هدى التي وجدت نفسها لسنوات بمثابة الإبنة الوحيدة للأسرة،
فقد عاشت إلى حدود الثامنة من عمرها وحيدة مع والديها اللذين كانا
يتشاجران باستمرار، ويصل شجارهما حد التعارك مع استعمال العنف، كل تلك
المشاهد التي حولت البيت إلى حلبة للصراع أو الملاكمة بين الزوجين رسمت
صورة قاتمة عن الأسرة في ذهن الطفلة هدى.
حين التقينا هدى كانت، ووفقا للمعايير الدولية لحقوق الطفل، قد خرجت لتوها
من مرحلة الطفولة، فعمرها لا يتجاوز الثامنة عشر سوى ببضع شهور.
استمر التأثر بخلافات الوالدين، رغم قدوم شقيقي هدى اللاحقين، خاصة وأن
الخلاف كان يقوم على قلة احترام للزوجة، وتبادل للسب والشتم أمام عيني
الصبية بألعن الأوصاف والنعوت، ومع بلوغ مرحلة التعليم الإعدادي، ازدادت
حدة التأثر بخلافاتهما، واستمر شريط التعرض لاعتداء من أحد الأشخاص يعبر
مخيلة هدى، التي اكتشفت عند أول اتصال جنسي لها أنها ليست عذراء، دون أن
تذكر - مثلما تحكي بنفسها - يوم ولا ظروف الاعتداء عليها، وهو ما يدفعها
إلى الاعتقاد بأن الاعتداء تم في طفولتها المبكرة.
أتذكر مرارا كيف كان والدي - ولازال - يناديني في كل مرة بكلمة العاهرة
بالدارجة المغربية، فكم من المرات أكون بصدد تناول وجبة الغذاء من أجل
الالتحاق بالمدرسة، وأكون على موعد مع امتحان مثلا بعد لحظات، لكن والدي
يصر على مناداتي بالعاهرة، كنت أقوم من على طاولة الغذاء وعيناي مغرورقتان
بالدموع، فأنا حينها لم أكن قد قمت بأي فعل أو سوء تصرف قد يبرر أن
يناديني أي شخص بتلك الصفة، فما بالك بوالدي، أشعر، تختتم هدى حديثها عن
أسرتها بالقول «فوق هذا وذاك، كان يعاملني مثل كلب يداوم على تحقيره».
عانيت كثيرا، أصبحت أرتعد لرؤية شخص يرفع عقيرته بالصراخ أو السب، الكابوس
بالنسبة لي هو أن أعاود رؤية شخص يشبه والدي في معاملته للآخرين، فقد كان
هذا الآخير جارحا باستمرار وعنيفا في الكثير من الأحيان، لاسيما حين كان
مواظبا على شرب الخمر.
هربت لأول مرة من البيت والمدرسة وعمري آنذاك لا يتجاوز التاسعة، فقد خطر
ببالي أن لا أحضر إلى قاعة الدرس، وبالمقابل ذهبت إلى البحر، وقضيت ساعات
تاركة والدتي تبحث عني قبل أن أتوجه إلى بيت عمتي وأطلب منها إخبار والداي
بأنني عدت، وفي عمر العاشرة تقريبا كنت أرافق كثيرا الأطفال الذكور الذين
يدخنون السجائر وأرى كيف يفعلون، حتى أنني «ملي خرجت للبلية» كنت أشعر
بأنني متعودة على التدخين ...
في سن الثانية عشر، خرجت للبلية، فقد غادرت بيتنا بعد زوال أحد الأيام على
إيقاع خلاف مع والدتي، وقررت حينها أن لا أدخل إلى الفصل الدراسي. كانت
الساعة تشير إلى الرابعة بعد الزوال، وكنت أتوفر يومها على 100 درهم
أعطاني إياها أحد أصدقائي ممن كنت ألتقي بهم في الشات، كان مغربيا عاد من
الخارج، ودأب على مساعدتي من حين لآخر في بعض فروضي المدرسية، خاصة في
اللغة الفرنسية ...
الخطوات نحو السيجارة الأولى
اقتنيت من «مول الزريعة» سيجارتين وولاعة، وذهبت خلف الإعدادية حيث أدرس
بحي الحرية لأدخنهما، كنت قد فقدت يومها سوارا بسيطا أضعه في يدي مما أغضب
والدتي التي توعدتني بالطرد من البيت إن لم أحضره معي، وأكدت أنني لن أدخل
البيت قبل أن أحضره معي ... وقبل أن أغادر البيت حملت معي سروالين وسترات
كما ارتديت جاكيتة، وأنا عازمة على عدم العودة للبيت، ولم آبه لزملائي في
المدرسة الذين كانوا يحذرونني من رائحة السيجارة في ملابسي وفمي، وعرض علي
أحد زملائي وأصدقائي أن أرافقه لتدخين بعض «الجوانات»، لم أتردد، رافقته
إلى الشاطئ، وفي الطريق أخبرني أننا بحاجة إلى من «يفتخ لنا الحشيش» أي
يفتته ويجعله قابلا لأن يوضع في جوانات، فأجبته على الفور «ما تخافش أنا
غادي نفتخو، راني كنعرف» وبالفعل أتذكر جيدا أنني فتخته فوق فخذي لأنني
عجزت عن فعل ذلك في كفي، كما يفعل الآخرون.
في نفس اليوم كنت قد جربت تدخين السيجارة والحشيش معا، غير أن تأثير هذا
الأخير غريب ولا علاقة له بالأول، فبمجرد أن دخنا الجوانات التي صنعناها،
أصبحنا نتمايل كالسكارى، ونرى الوجوه مختلفة تماما ... دعاني زميلي فيما
بعد لأن أذهب معه لأحد قاعات اللعب، وهناك التقينا صديقا مشتركا، قام
بدعوتي للعب، اعتذرت وفضل أن يترك في حوزتنا محفظته المدرسية ليلعب في
الألعاب الموجودة بالقاعة، وفور ابتعاده عنا أشار علي رفيقي بأن أفتش
محفظته لأننا نعرف بأنه يتعاطى الحشيش بدوره.
داخل المحفظة عثرت على قطعة من «المعجون»، لم أتعرف في البدء على ماهيته،
لكن رفيقي أقنعني يومها بأنه يشبه الحشيش فبدوره يمنح جوا رائعا لمن
يتناوله، وقمنا بالفعل بتناول كمية لابأس بها منه، لتكتمل مغامرتنا، تأثير
الخلطة كان قويا، شعرت بالرغبة في التقيؤ، وقاومت آثار المعجون والحشيش
لأخرج باتجاه البيت لكنني وجدت نفسي بعد دقائق في اتجاه آخر بالمدينة.
ركبت سيارة أجرة واتجهت صوب بيت إحدى صديقاتي، طلبت منها السماح لي بقضاء
الليلة في بيت أهلها، لكنها أخبرتهم واستشاطوا غضبا في وجهي قبل أن أغادر
نحو اتجاه لا أعرفه، ركبت الحافلة لأجد نفسي في إقامة لإحدى الشركات على
ضفاف المانيسمان - أحد شواطئ المدينة - قضيت الليلة هناك، بعد أن افترشت
الملابس فوق درج إحدى الشقق، وفي الصباح ذهبت إلى المدرسة فوجدت أن والدي
يبحثان عني، وبالفعل ذهبت معهما إلى البيت، لكنني لم أتوقف أبدا عن
التدخين، وعلم والداي في نفس اليوم أنني أدخن السجائر والحشيش معا، دون أن
يغير علمهما بالأمر شيئا.
طاردت خيط دخان!
راق لي أن أستمر في تدخين السجائر، كنت أنتشي بالبحث عن درهم أو اثنين
لأقتني في كل مرة سيجارة وأن أرافق أحدهم لأدخن معه جوانا أو اثنين،
وتعددت علاقاتي بمن كانوا يمدوني بالسجائر والحشيش أحيانا، لكن التجربة
علمتني الشيء الكثير عن رفقة السوء خاصة وأنه «من بعد ما تبليت ما بقيتش
كانلقى اللي يرحمني ويعطيني ولو ربعادريال» تعلق هدى. في البدايات، كان
يكفيني أن أتدبر أمر سيجارة واحدة أو اثنتين وأن أدخل قاعة الألعاب،
لأجتذب نظر أحدهم فيحضر للتو من أجل مرافقتي في جلسة التدخين ويمدني بعدها
ببعض الجوانات أو النثرات التي تجعلني أرتفع لعوالم أخرى في أجواء ألفتها
وأصبحت تشكل جزءا من حياتي اليومية.
بعد أن دخلت عالم «البلية» أصبحت أعرف كل "المبليين"، وخبرت كيفية البحث
عن أحدهم من أجل الحصول على جوان سواء من "مبلي" مثلي أو من «بزناس» يتوفر
على الحشيش بكميات وافرة ... في مجال «البلية» لم يكن صعبا علي أن أتلقى
بين الحين والآخر دعوات من أصدقائي ورفاقي في جلسات تدخين الحشيش لكي أدخن
جوانا، كانوا أحيانا ينادونني عندما يلمحوني أمر من أمام مقهى اعتادوا
الجلوس فيه، لكنني في الكثير من الأحيان كنت أضطر لأن أبذل مجهودا كبيرا
ولأن أطبع نفسي بالكي بواسطة السجائر حين أفتقد الجوانات أو غيرها من
المخدرات.
قضيت مستوى السابعة ثم الثامنة وأنا أدخن السجائر والحشيش، وعندما بلغت
مستوى التاسعة إعدادي، لا أذكر أنني دخلت يوما الفصل الدراسي بعد زوال يوم
السبت إلا وأنا مخمورة «من بدية العام عمرني ما دخلت ساحية للقسم» تتذكر
هدى التي أصبحت تتعاطى للخمر أيضا.
في 2004 كنت قد بلغت مستوى التاسعة، وأصبحت أتعاطى مزيدا من » البليات «،
لم أكن أحتار في إخفاء رائحة الخمر، إذ كان يكفيني أن أتناول محتوى كيس من
الفانيلا أقتنيه ب 50 سنتيم، حتى أخفي الرائحة، كما أنني كنت أتحكم بشكل
جيد في إخفاء رائحة الخمر أو السيجارة المنبعثة من فمي، علما أن معظم
أساتذتي كانوا يعلمون بأنني أدخن.
خلال الثلاث سنوات السابقة، كنت أعيش تارة في البيت وتارة خارجه، وقد ألف
والداي الأمر، وبعد تفوقي في السنوات السابقة في الدراسة انقلبت أوضاعي
وضعف مستواي، فتعثرت دراستي كثيرا في مستوى التاسعة حيث كررت مرتين
التاسعة إعدادي، لأغادر الدراسة بعد شهر واحد من بداية الدراسة خلال ثالث
عام لي في التاسعة إعدادي، وبدأت فصول أخرى في حياتي، كان وقعها أقوى علي.
الحمل السفاح فالدعارة!
تعرفت على أحد الشبان عن قرب، كانت تربطه صلة قرابة غير متينة بعائلتي،
وتطورت علاقتنا إلى أن أصبحت أقطن معه في بيت أهله، وفي أحد الأيام تشاجر
مع والدتي فطردني من البيت رغم أنه كان قد وعدني بالزواج، اكتشفت حملي بعد
خروجي من بيته ولم ينفعني في شيء، الرجوع إليه ولا إخباره بأمر حملي، خاصة
وأنني كنت حزينة، أشعر بالضياع لأمر طردي من البيت، يومها أفرطت في شرب
الخمر وتدخين السجائر والحشيش وعند عودتي إلى الغرفة التي كان قد اكتراها
لي مباشرة بعد قيام الأول بطردي، وحينها شعرت بنزيف حاد مصحوب بقطع من
الدم المجمع عرفت فيما بعد أنه الجنين الذي أسقطت، واقتنيت أدوية من
الصيدلية لتنظيف دواخلي من بقايا الجنين ...
مرحلة أخرى من حياتي اتسمت بقيامي باكتراء غرفة مع «الزوافرية» ثم السكن
لوحدي في غرفة فوق أحد السطوح، وبما أنني كنت بحاجة ماسة لأعيل نفسي «بديت
كنخرج، كان خاصني ندبر على راسي» تتحدث هدى عن مغامرات الدعارة التي لم
تشأ الدخول في الكثير من تفاصيلها، لكن الأمر الأهم أنها كانت بحاجة وهي
في السادسة عشر لأن تخرج في أي وقت من اليوم، قد تكون التاسعة أو الرابعة
صباحا لبيع جسدها، ورغم أن أحد أصدقائها قد أظهر لها مشاعر طيبة وأبدى
رغبته القوية في الارتباط بها بالزواج، إلا أن الحياة استمرت صعبة جدا
أمام هذه الصبية التي ما إن كانت تعود نحو بيت أهلها بعد طول غياب حتى تجد
الوالد يطلب منها المال «عارفني منين غادي نجيبو ولكن ما كيهموش أني نخرج
للطريق « تعلق هدى التي لمست في نفسها بوادر التراجع بعد طول احتكاك
بالمخدرات، دفعتها لمرات عديدة ( حوالي خمس مرات ) إلى تعاطي الكوكايين
أيضا وإلى دخول السجن لساعات لثلاث مرات وإلى الانتقال بين مدن عدة
بالمغرب وهي تحمل معها حبوب القرقوبي، تارة لإيصالها لأحدهم من مدينة
الحسيمة مثلا إلى البيضاء أو لاستعمالها الشخصي، فإدمانها لم يقتصر على
الحشيش فقط أو الخمر، لكنه كان يطال أيضا القرقوبي وإذا لم تجده، لجأت إلى
اقتناء أدوية من الصيدلية عادة ما يستعملها المدمنون إذا عجزوا عن تدبر
حبات القرقوبي أو الحشيش حتى أنها استعملت لمرات عدة حبات «أسبرو 500 »
....
هروب فتاة أخرى من بيت والديها ولجوؤها إلى هدى من أجل مساعدتها هو الذي
جعلها تستفيق وتهتدي إلى ضرورة تجنب طريق البلية والدعارة الذي جعلها تعيش
تجربة قد يحتاج المرء لعمر بأكمله حتى يحياها، وساعدها الحب كثيرا على
إحداث التغيير في حياتها، ونجحت هدى اليوم في التخلص من إدمان الحشيش ومن
تعاطي الخمر والدعارة بفضل إرادة قوية جدا في تغيير حياتها، لكنها لم
تتخلص بعد من التدخين ، وهي تدعو صادقة «الله يعفو».