الذي يقرأ مذكرات غولدا مائير وإسحاق شامير ومعهما موشيه دايان، ومذكرات باقي قادة إسرائيل التاريخيين يخرج بخلاصة واحدة: وهي أن كثيرا من عناصر هذا الجيل المؤسس ـ وهم أعداء ـ يستحقون التقدير..
وبعيدا
عن الدعاية الكاذبة التي ملؤوا بهم كتبهم المحررة بالإنجليزية (هناك
ترجمات لبعضها بالعربية) والموجهة إلى الأجانب في أوروبا وأمريكا وباقي
أنحاء العالم، فهؤلاء آمنوا بحاجتهم إلى وطن، واستولوا عليه بتخطيط ودعم
وتمويل دول أوروبية جاءت بعدهم أمريكا...
بدأ
المشروع كله بفكرة بسيطة ناقشها هرتزل وأصدقاؤه في مؤتمر بازل بسويسرا عام
1896، ولم يقف هؤلاء اليهود عند حد "الجعجعة" كما هو حالنا، بل انطلقوا في
تطبيق بنود خطة واضحة المعالم، بدأت بتنظيم هجرات صغيرة وغير ملحوظة إلى
فلسطين، حيث استقر الرعيل الأول واشترى الأراضي بأثمان أسالت لعاب بعض
سكان فلسطين، وانتهت بإعلان الحرب على الدول العربية مجتمعة، مرورا بتكوين
عصابات دموية كان كل هدفها القتل وإرهاب الفلسطيني لترك أرضه والنجاة بنفسه.
ومنذ 1917 تاريخ
صدور وعد بلفور، وحتى عام 1947 السنة التي بدأ فيها الحديث عن تقسيم
فلسطين داخل الأمم المتحدة بعد تأكيد بريطانيا عزمها إنهاء انتدابها، مرت
قضية فلسطين بمرحلة هي الأكثر سوداوية في التاريخ الإسلامي المعاصر.
سوداوية
كانت هي كل اللون الذي يعشقه اليهودي الصهيوني إلى جانب اللون الأحمر،
الذي صبغ البلاد بالكثير منه في مجازر لا تعد ولا تحصى لم تكن أولها ولا
آخرها دير ياسين.
مذكرات
قادة إسرائيل المليئة بالأكاذيب والحوادث المزيفة، تتحدث من جانب ثان عن
بعض كواليس ما جرى، خاصة عند تكوين عصابات الهاجاناه وشتيرن وأرغون تسفاي
لؤومي والتي كان كل من مناحيم بيغن وإسحاق شامير من قياداتها البارزة.
ومع
انسحاب البريطانيين عام 1948، ستؤكد قيادات إسرائيل دخول ما يسمونه حرب
الاستقلال مرحلتها الأخيرة بالإعلان عن قيام الدولة التي اعترفت بها
واشنطن بعد ساعات قليلة، وهو القرار الذي وصفته رئيسة وزراء إسرائيل
السابقة غولدا مائير في مذكراتها بأنه "أثار دهشتها"...
هنا
فقط تحرك أصحاب الشوارب من قادة الدول العربية المحيطة، معلنين في عنترية
مفضوحة دخول الأرض المقدسة لتحريرها والإلقاء باليهود في البحر.
والذي
يدرس هذه المرحلة بالضبط يتأكد من حقيقة واحدة: هي أن الحرب لم تقم بالمرة
على أرض فلسطين.. علما أن أغلب الدول العربية كانت ما تزال ترزح تحت نير
الاحتلال الفرنسي أو البريطاني أو الإيطالي..
الجيوش
العربية دخلت فلسطين مفككة الأوصال، وظهر انعدام التنسيق بينها أو على
الأقل ضعفه في بعض الحالات، بشكل كبير.. بل بدت ملامح الخلل حتى داخل
الجيش الواحد نفسه، من خلافات وتناقضات وصراعات أضيفت إليها بيروقراطية
قاتلة لتكتمل الصورة.
المثير
أن بعض الفئات الشعبية التي شاركت في الحرب كان تأثيرها أكبر وأفضل
باعتراف قادة إسرائيل أنفسهم، ويمكن الحديث في هذا الموضع على سبيل المثال
عن مقاومة البدو من أهل فلسطين إلى جانب وحدات حركة الإخوان المسلمين التي
أرسلها الزعيم حسن البنا رحمه الله.. هذه
المقاومة الشعبية كبدت الإسرائيليين خسائر جمة في العتاد والأرواح، وعرقلت
زحف عصابات الهاجاناة والأرغون.. بل ونجحت في استرداد العديد من الثكنات
التي فشلت الجيوش في تحريرها... وهنا تحركت بريطانيا ومعها دول أوروبية
للضغط على حكومة مصر زمن الملك فاروق، فأقدمت حكومة النقراشي ابتداء على
اعتقال المئات من الإخوان بتهمة تخزين السلاح لضرب أمن مصر، ـ وانتهاء ـ
على اغتيال المرشد حسن البنا رحمه الله..
فاضطربت
الأوضاع داخل أرض الكنانة بعدها باغتيال رئيس الوزارة النقراشي، ليتم حل
الجماعة والزج بقادتها في السجون.. وهكذا تغير تاريخ مصر إلى الأبد بسبب
ما جرى في فلسطين، خاصة وأن ثورة الضباط الأحرار انطلقت في هذه الفترة
بالضبط وعلى أرض فلسطين نفسها بعد صفقة الأسلحة الفاسدة التي بعثت بها
حكومة النقراشي لهم ليحاربوا الإسرائيليين، لتعلن الثورة عن نفسها يوم 23
يوليوز 1952.
ولنتفق
منذ الآن على أن تاريخ فلسطين وما جرى من المستحيل تلخيصه في مجلد مثلا،
فبالأحرى في عمود صغير.. لذا فقد بات فرضا على كل فرد الاطلاع على هذا
التاريخ واستجماع خيوطه لمعرفة ما حدث والارتكاز عليه لصنع المستقبل، وهي
خيوط وكواليس تفسر الكثير مما يجري حاليا سواء بالمنطقة العربية أو دول
العالم ([ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]).
إن
الذي أرعب الإسرائيليين وما يزال ـ منذ سعيهم لإقامة دولتهم وحتى الآن ـ
هي المقاومة الشرسة التي لم تنته يوما.. مقاومة شباب العشائر وشيبها في
بداية الأمر، ثم مبادرة الحاج أمين الحسيني الذي كفر كل من يبيع أرضه
للمستوطنين اليهود، وجهاد الشهيد عبد القادر الحسيني صاحب معركة القسطل
الشهيرة عام 48، والشهيد عز الدين القسام الذي لقي ربه خلال معركة عام
1935 وهو ينادي رفاقه قائلا: "لن نستسلم.. هذا جهاد في سبيل الله والوطن..
يا رفاقي موتوا شهداء".
في
هذا السياق، يمكن فهم ما يجري في قطاع غزة حاليا من حصار وتجويع وإبادة
جماعية مع سبق الإصرار والترصد. فتل أبيب تعلم علم اليقين أن فصائل
المقاومة وفي مقدمتها حماس، هي استمرار لموكب المقاومين الشرفاء من الرعيل
الأول.. وكما
استعصى الركب الأول على الاحتواء، استعصى من يعيشون هذه المرحلة من تاريخ
الأمة على التذويب والإذعان الذي يشارك فيه محاولة فرضه بعض من يحملون
الجنسية الفلسطينة والعربية للأسف الشديد.
أمام
هذا الثبات المثير، لم يكن من حل أمام الاحتلال سوى محاصرة القطاع بأكمله
لدفع سكان القطاع للثورة على حماس وباقي الفصائل وهم يمثلون خيار استمرار
المقاومة لأجل التحرير، في حين أن العكس هو الذي يحدث.. وقطاع غزة كان
دوما كابوسا مزعجا بالنسبة لقادة إسرائيل، لدرجة دفعت إسحاق رابين للتصريح
غير ما مرة للصحف الإسرائيلية بأنه "يتمنى أن يستيقظ يوما ويرى غزة وقد
غرقت في البحر"..
لا
شك أن معرفة العدو قضية محورية في أي معادلة صراع، والذين عرفوه ومنهم
الراحل العظيم عبد الوهاب المسيري رحمه الله يجزمون أن إسرائيل إلى زوال،
لأسباب كثيرة (ليس هنا مجال لسردها)، وأن مظاهر الزوال بدأت تظهر.. وكلها تدخل ضمن إطار حقيقة بسيطة واضحة: إسرائيل قامت على أرض ليست أرضها، والأرض تعود دائما لأصحابها مهما طال الزمن !
ومعرفة
العدو تستلزم مطالعة كتبه وجرائده ومتابعة أوضاعه السياسية والاجتماعية
والفنية والاقتصادية. فالنصر لن يتأتى أبدا بلعن هذا العدو صباح مساء،
ووضع اسم دولته بين قوسين أو مزدوجين